زيارة عاشوراء.. حلم طفولتي وكنْزي الثّمين

نرجس نعمة الجابري/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 137

كانت أمّي دائمًا ما تستدير عكس اتجاه القبلة على سجّادة الصلاة بعد أدائها لصلاة العشاءين وهي تمسك بكتابٍ متوسّط الحجم على غلافه صورة لقبّةٍ خضراء، كانت تقول لي إنّها قبّة مرقد جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عندما كنت أسألها لمن هذه القبّة؟ لم نكن نمتلك في بيتنا سوى هذه النسخة آنذاك، وكانت دائمًا عند أمّي، ولأكثر من مرّة سألتها عنه، فكانت تقول: إنّه (مفاتيح الجنان). لم أكن أعرف معنى هاتين المفردتين (مفاتيح الجنان)، لكنّي كنت عند كلّ صلاة مغرب أحرص بشدّة على مراقبة أمّي فيما إذا كانت ستقوم بالعمل نفسه أم لا. كنت أجلس قبالتها، أراقب قيامها وقعودها، وأنا في الخامسة أو السادسة من عمري، أراها بعد الصلاة تقرأ في هذا الكتاب وتبكي بحرقة، كنت أبكي معها ولا أعلم لم أبكي! حتى هي لماذا تبكي! كان منظر أمّي وهي تبكي يؤلمني. مضت بنا الأيام وأنا لم أكفّ عن الجلوس قبالتها عند الصلاة لأشاهد المنظر نفسه الذي بات يأخذ جزءًا من قلبي وتفكيري الصغيرين، أصبحت بعدها أفرش سجّادتي بجانبها لأصلّي معها على الرغم من أنّني لم أكن أعرف كيف أصلّي، فقط أقوم وأقعد معها، وأقرأ أيّ سورة أحفظها، وهذا كان لأجل أن أحظى بتلك الجلسة التي تجلسها أمّي، ورحت أسألها: ماذا تقرئين؟ وكانت دائمًا ما تجيبني: (زيارة عاشوراء)، فأعود لأسألها: ما هي زيارة عاشوراء؟ فتقول: إنّها زيارة خاصّة للإمام الحسين (عليه السلام)، فأطمع بإجاباتها أكثر، فأسأل: إذن لماذا تستديرين عكس اتجاه القبلة؟ فتقول: لأتّجه صوب كربلاء. عندها أفهم وأقوم بالربط بين كربلاء والإمام الحسين (عليه السلام) الذي قالت إنّها تزور زيارته ـ روحي فداه ـ كنت أطلب منها مرارًا وتكرارًا أن تعطيني الكتاب بعد انتهائها من القراءة، عسى أن أفهم ماذا تجده فيه غير الكتابة التي لم أكن أعرف قراءتها، فكانت ترفض إعطائي إياه خوفًا عليه من التلف أو التمزّق، لأنّني طفلة وهو نسختنا الوحيدة، فكنت أعيد الطلب، لكن من دون جدوى. صرت أتمنّى لو أنّني أستطيع أن أقرأ هذه الزيارة مثل أمّي لأرى ما الذي يجذبها بهذه الطريقة لتعيش وسط أجواء مختلفة تمامًا، مليئة بالخشوع والتذلّل والبكاء، حالة من الانقطاع عن واقعنا. صرت أتمنى لو أنّني أكبر فقط لأقرأ ما تقرأه أمّي. مضت السنون ونحن على الأمر والوضع نفسه، وأنا ازداد فضولًا وشوقًا لمعرفة هذه الزيارة، إلى أن جاء الوقت الذي تعلّمت فيه القراءة والكتابة بفضل الله تعالى. كنت استأذن أمّي لآخذ كتاب (مفاتيح الجنان) الذي بات يأسر قلبي، تحديدًا صفحات زيارة عاشوراء. كنت أحفظ رقم الصفحة عن ظهر قلب من دون الرجوع إلى الفهرست، عندها أخذت منها عادتها، فبعد كلّ صلاة مغرب أستدير عكس اتجاه القبلة صوب كربلاء لأقرأ زيارة عاشوراء. أصبحت لا أستطيع أن أغادر مصلّاي من دون هذا الفعل، وأدمنت قراءتها كأنّها جزء من روحي باتت تخفّف عنّي كلّ حمل بلا دون استثناء، واستمرّ بي الحال حتى اليوم. أنا أصبحت أتنفّس عبرها، أخفّف نوبات غضبي بقراءتها، أجلب الصبر بترديد بعض عباراتها، أستدرك بها كّل شيء، أنا أؤمن أنّ فيها سرّ عجيب، كفيل بأن يغيّر كلّ الأحوال والأوضاع إلى الأفضل.