عروس القرآن في أبهى حلة

عبير عباس المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 109

سورة زيّنتْ سور القرآن الكريم وآياته بأجمل المعاني، والكلمات، والإيقاع، وجرس الألفاظ، وجمالية التكرار، سورة احتوت على ذكر أهمّ النِعم الإلهية، وأهمّية الميزان، والحساب، وخلق الإنس والجنّ، وعقاب العاصين في النار، ونعيم المؤمنين في الجنّة، سورة ابتدأت بالرحمة، وخُتمت باسم الله ذي الجلال والإكرام، إنّها باختصار سورة (الرحمن). سُمّيت سورة (الرحمن) بـ(عروس القرآن)، فقد رُوي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "لكلّ شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره"(١). ولمّا كانت السورة معرضًا للنعم الإلهية العظيمة على البشر، كان من الملائم أنْ تبدأ باسم (الرحمن)؛ لتدلّ على رحمة الله الواسعة للبشرية جميعًا، صالحهم وطالحهم عن طريق الإغداق عليهم بتلك النِعم، والله تعالى اختار لفظ (الرحمن) بحكمة بدلًا من (الرحيم)؛ لأنّ للرحمانية معنىً يتلاءم مع مقام الرحمة بالبشر أكثر من الرحيمية: (الرحمن، أوسع المفاهيم بين أسماء البارئ (عزّ وجلّ) بعد اسم الجلالة (الله)؛ لأنّنا نعلم أنّ لله رحمتين: الرحمة العامّة، والرحمة الخاصّة، واسم (الرحمن) يشير إلى رحمة الله العامّة التي تشمل الجميع، مثلما أنّ اسم (الرحيم) يشير إلى الرحمة الخاصّة بأهل الإيمان والطاعة، ولعلّه لهذا السبب لا يُطلق اسم (الرحمن) على غير الله سبحانه إلّا إذا كانت كلمة (عبد) قبله، أمّا وصف (الرحيم)، فيُقال لغير الله أيضًا، وذلك لأنّه لا أحد لديه الرحمة العامّة سوى الله تعالى، أمّا الرحمة الخاصّة، فإنّها موجودة في المخلوقات وإنْ كانت بصورة محدودة)(٢)، ولهذا وصف الله تعالى رسوله الكريم (صلّى الله عليه وآله): ﴿...بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:٢٨)، وهو معنى قول الإمام الصادق (عليه السلام): "الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، والرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة"(٣). وربّما يتبادر إلى الذهن، تقديم تعليم القرآن في السورة على خَلق الإنسان، وهو خلاف للترتيب الطبيعي من خَلق الإنسان ثم تعليمه القرآن، والجواب: إنّ هذا الترتيب هو من الناحية الزمنية، أمّا الترتيب من ناحية العلّة وأهمّية نعمة تعليم القرآن على خلق الإنسان، فهو في وجود القرآن وتعاليمه التي تُقدّم على خلق الإنسان وتعليمه للبيان؛ ليتعلّم القرآن وتعاليم الشريعة، أي (لمّا كانت نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخَلق والإيجاد، قدّمها الله وإنْ كانت متأخّرة زمنًا، إلّا أنّ الله قدّمها لعظيم نفعها وجلالة أثرها، ولأنّ نعمة الهداية والإرشاد لا ينالها إلّا المؤمنون، لا ينالها إلّا المطيعون المخلصون المتّقون، لكن نعمة الخَلق والإيجاد مشتركة بين الخَلق، ينالها كلّ مخلوق، من برّ أو فاجر، من مؤمن أو كافر، من بني آدم، من الجنّ، من الملائكة، من البهائم، من الطير، كلّهم يجتمعون ويتساوون في أنّهم مخلوقون للربّ تبارك وتعالى)(٤). ومن جميل معالم هذه السورة تكرارها لآية ﴿فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ إحدى وثلاثين مرّة؛ للتأكيد على أهمّية تلك النعم والآلاء للإنس والجنّ؛ لأنّ الخطاب كان موجّهًا إليهما، وإنْ كان الخطاب يبدو تهديدًا في الظاهر، إلّا أنّ التنبيه إلى أمور كهذه، يُعدّ لطفًا ورحمةً. ومن لطائف هذه السورة قوله تعالى: ﴿مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ یَلۡتَقِیَانِ࣪ بَیۡنَهُمَا بَرۡزَخࣱ لَّا یَبۡغِیَانِ࣪ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ࣪ یَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ﴾ (الرحمن:19ـ22)، فعن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: "مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ یَلۡتَقِیَان"، قال: عليّ وفاطمة، "بَیۡنَهُمَا بَرۡزَخࣱ لَّا یَبۡغِیَانِ" قال: لا يبغي عليّ على فاطمة، ولا تبغي فاطمة على عليّ، "یَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ" قال: الحسن والحسين عليهما السلام"(5). أمّا ختام السورة، فيتناسب تمامًا مع ذكر كلّ النعم الإلهية في الدنيا والآخرة بقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الرحمن:٧٨)، فعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)‌ في هذه الآية: "نحن جلال الله وكرامته التي أكرم الله تبارك وتعالى العباد بطاعتنا ومحبّتنا"(٦). ومن أجمل ما جاء في هذه السورة حديث أبي عبد الله (عليه السلام): "سورة الرحمن نزلت فينا من أولها إلى آخرها"(٧)، وبلحاظ هذا الحديث وما سبقه، ندرك أنّ النِعم الإلهية الوارد ذكرها في سورة (الرحمن) تُؤوّل بالمعصومين (عليهم السلام)، فهم أعظم نعمة لبني البشر والعالم كلّه، وهذه الجزئية أعطت لعروس القرآن تلك الحلّة البهيّة التي تميّزت بها. .................... (١) مجمع البيان: ج٩، ص٣٢٦. (٢) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج17، ص٣٦٣. (٣) تفسير الميزان: ج١، ص23. (٤) معالم بيانية في آيات قرآنية، صالح المغامسي: ج١، ص٢. (٥) بحار الأنوار: ج37، ص96. (٦) تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي: ج٥، ص٢٠٣. (٧) مستدرك سفينة البحار: ج4، ص١٠٢.