تاج المكارم
جن الليل على الأحبة وارتفعت أصواتهم، وصفع الأخ أخاه بغضب شديد من جراء قول نقل عبر ألسنة مسمومة، تود لو أن القريب يقطع رحمه، فصرخ الآخر بوجه أخيه الأكبر معترضًا على كف لطمت خده من دون حق، وخرج عن صمت تام منطلقًا نحو أفعال مضت ذاكرًا إياها، وتطور الحديث في حدته ليصل إلى ذروة الصراخ، حتى قطع الأب كل المشادات بصرخة منه، وفرق الأخوين كلا إلى غرفته، ومر الليل عليهم أثقل من حبة رز على ظهر نملة. حتى أطل الصباح محملًا بهموم كلا الأخوين، ومثقلًا صدورهم، الأول بالندم على ما فعل، والثاني بالحزن مما جرى، وتلا الصباح صباح آخر ازداد فيه صمت الأخوين، وقل فيه الكلام حتى أدركتهما القطيعة التي كانت بمنزلة السكين الذي يقطع قلب الأب كل يوم وهو يرى مائدة الصباح خالية من ضحكاتهما، وصوت الأطفال الذي اختفى من باحة الدار بعد الذي حصل، كانت دموعًا ساخنة ملتهبة تنساب من قلب الأب على وجنتيه، بينما مر ابنه الأصغر أمامه، هم إلى أبيه بسرعة متسائلًا عما يؤذيه فهو لم يعتد حزن أبيه هكذا، فابتدأ كلامه: ـ ما الذي يحزن قلب أبي؟ وأي بلاء سيحل بنا بسبب هذه الدموع يا تاج رأسي؟ رد الأب بحزن بالغ: القطيعة يا ولدي لا تؤلمكما فقط، بل تقطع أحشائي وأنا أرى الأخوين المحبين بعضهما لا تجمعهما مائدة إفطار، ولا تستدرجهم ساعة السهر مع أبيهما في الليل. طأطأ الابن رأسه أسفًا وألمًا، وما إن أراد الكلام حتى أردف الأب قائلًا: ـ أعلم يا بني أنها كانت كلمات قاسية وقد تسببت لك بألم شديد، لكنها من دون قصد، فلا تثقل كاهل أخيك، فهو يتألم من خطئه تارة ومن قطيعتك تارة أخرى، تعلم العفو والصفح بخاصة عن الإخوة، فلا يحبك أحد مثل أخيك، فهو سندك الحقيقي في الحياة، ولا تنس قول الإمام الصادق (عليه السلام): "ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جهل عليك"(1)، فكيف إذا كان هذا الشخص أخاك؟ في أثناء الحديث دخل الأخ الأكبر وعيناه مغرورقتان بالدموع، متجهًا صوب أخيه متأسفًا ومقبلًا إياه وهو يقول: سامح أخاك إن أخطأ، واجعل لمحبتنا سبعين عذرًا، فإن أخطأت بحقك، فحبك لن يتغير في قلبي يا مهجة أخيك. انفرجت أسارير الأب وارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه، وعادت السعادة والطمأنينة من جديد إلى قلبه قبل داره. ............................. (1) الكافي: ج2، ص107.