رياض الزهراء العدد 213 أنوار قرآنية
البطل الرابع لأصحاب القرية
شخصيات كثيرة ورد ذكرها في القرآن الكريم، منها ما ورد ذكرها بتفصيلات بينت معالم تلك الشخصيات وملامحها، ومنها ما ذكرها القرآن الكريم بشكل سريع مراعاةً للسياق، أو لسرعة إيقاع السورة وقصر فواصلها، أو لعدم تشتيت الانتباه عن الشخصيات الأخرى وأدوارها، إلا أن المفسرين والباحثين دأبوا على الولوج في سبر أغوار تلك الشخصيات القرآنية، والبحث عنها في كتب ومؤلفات خاصة تحت مسمى (أعلام القرآن). دراسة هذه الشخصيات القرآنية مهمة جدًا في فهم دور هذه الشخصية وموقعها من الخير أو الشر، وتأثيرها في سير أحداث القصص القرآني، او لبيان أسباب نزول الآيات، وغيرها، مما يزيد من التعمق في المفاهيم القرآنية ومعرفة دقائق التفصيلات تلك. وفي سورة (يس) المباركة تطالعنا قصة (أصحاب القرية)، في هذه القصة ركز القرآن الكريم على تفصيل أعداد أبطالها أكثر من التعرض إلى تفصيلاتها الأخرى، كاسم القرية، وموقعها، وزمان حدوث القصة، وأسماء رسلها، مراعاةً لسرعة إيقاع السورة، وقصر فواصلها، فأوجب ذلك الاختصار، إلا أن الروايات الشريفة وضحت تلك التفصيلات، فقد قال الله تعالى: ﴿وٱضۡربۡ لهم مثلًا أصۡحٰب ٱلۡقرۡية إذۡ جآءها ٱلۡمرۡسلون° إذۡ أرۡسلۡنآ إليۡهم ٱثۡنيۡن فكذبوهما فعززۡنا بثالث فقالوٓا إنآ إليۡكم مرۡسلون° قالوا مآ أنتمۡ إلا بشرٞ مثۡلنا ومآ أنزل ٱلرحۡمٰن من شيۡء إنۡ أنتمۡ إلا تكۡذبون﴾ (يس:13ـ15) وما بعدها من الآيات تشير إلى قصة مدينة (أنطاكية)، إحدى مدن بلاد الشام، وهي إحدى المدن الرومية المشهورة قديمًا(١)، واختلف في أسماء الرسل الثلاثة، لكن أغلب المفسرين اتفقوا على أنهم من حواريي النبي عيسى (عليه السلام)، ومهما كانت أسماء الرسل، فهم أصحاب القرية التي كذب أهلها الرسولين، وتطيروا بهما وسجنوهما وعذبوهما، حتى عزز الله الرسولين برسول ثالث أكمل مهمته على أكمل وجه في قصة مفصلة لا يسع المقام لذكر عبرها(2)، وتخلل القصة ذكر بطل رابع أكمل مهمته على أكمل وجه أيضًا، وهو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى؛ ليصدق دعوى الرسل، ويدعو قومه إلى الهداية والإيمان، ويدعى (مؤمن آل يس) أو (صاحب يس) المدعو (حبيب النجار)، وهو (حبيب بن إسرائيل، اسمه بالعبرية: (أغابوس)، وقيل: (تئوفلس)، يعني حبيب الله، كان من أهل أنطاكية، وكان نجارًا، وقيل: حبالًا، وقيل: إسكافًا، وغير ذلك(3)، آمن بعيسى (عليه السلام) وكتم إيمانه بعد التقائه بالرسولين، وصدق دعوتهما بعد أن شفيا ابنًا له، وأخذ يتعبد في غار بأنطاكية، حتى أمر (أنطيخس) ملك أنطاكية بقتل الرسولين بعد سجنهما وتعذيبهما، فهرع (حبيب) إلى قومه يحذرهم من قتل الرسولين، ودعاهم إلى الإيمان بالله تعالى، فلما علموا بإيمانه وطئوه بأرجلهم، حتى مات فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق، وهو قوله تعالى: ﴿قيل ادخل الجنة﴾ (يس:26)، وقيل: إن القوم لما أرادوا أن يقتلوه، رفعه الله إليه، فهو في الجنة ولا يموت إلا بفناء الدنيا(4). ويكفي (حبيب النجار) فخرًا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه: "الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي يقول: اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم" (5). نرى أن شخصية (حبيب النجار) شخصية فاعلة ومؤثرة في سير أحداث القصة عبر مواقفها الآتية: 1ـ الإيمان بالله وتصديق الرسل في ظل مجتمع كافر ومكذب للرسل، مما يعكس قوة إيمانه. 2ـ تقديم النصح والإرشاد لقومه، ودعوتهم إلى الإيمان يوضح أهمية الدعوة إلى الله تعالى، وأنها من واجبات المؤمن. 3ـ إذا كان دين الله يستوجب تضحيةً كبيرةً في مقطع زمني معين؛ لتحدث هزةً في المجتمع، ويستفيق من سباته وتكذيبه للرسل، فستكون مظلومية المؤمن عندها وهجًا ينير طريق المؤمنين من بعده. 4ـ إن ترجحت كفة جبهة الباطل ماديًا على حساب جبهة الحق، فهذا لا يعني أن الباطل منتصر، بل ذلك يعني هزيمة الباطل معنويًا، وانتصار جبهة الحق. 5ـ هناك مفاهيم لا تزال موجودة في مجتمعاتنا إلى اليوم، ويجب أن تترسخ في نفوس المؤمنين؛ لأنها من السنن الكونية الثابتة. ........................... (١) تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل: ج١٤، ص١٥٠. (٢) التفسير الصافي: ج٤، ص٢٤٧- ٢٤٨. (٣) أعلام القرآن: ص٢٨٣. (٤) بحار الأنوار: ج٦٤، ص204. (5) ميزان الحكمة: ج2، ص١٥٧٩.