العائدة
بعدما انهارت قواي أمام المرض، ولم أعد أستطيع مواجهته، بدأ جسدي بالنحول رويدا رويدا، فلم يعد يستجيب للعلاج الذي وصفه الأطباء لي، حتى أحسست أنني بدأت أرهق من حولي لعنايتهم بي، تركوا أعمالهم وأشغالهم وعوائلهم وتجمعوا حولي، أولادي وبناتي كانوا يحسنون رعايتي ويأملون شفائي، لكن لا جدوى من ذلك، لقد غزا السرطان كامل أعضائي، ولم أعد قادرة على مقاومته. في هذا الصباح، استيقظت على صوت ابنتي وهي تقدم لي وجبة الفطور، ثم ذهبت لرؤية ابنها الصغير الذي تركت رعايته من أجلي؛ لتعود مرة أخرى، وبينما كانت تهم بالخروج، قلت لها: - متى ستعودين؟ فردت مازحة: - ربما لن أعود اليوم. - سيكون الوداع بيني وبينك هذا اليوم. فرجعت وطبعت قبلة على جبيني، وقالت: - لا تقولي هذا مرة أخرى، وخرجت مسرعة تكفكف دموعها المتناثرة على وجنتيها. وبعد برهة طلبت من ابني أن يعدل وسادتي لأستلقي على سريري، لكن الغريب أني لم أعد قادرة على تحريك أطرافي، أردت إخبار ابني، لكني لم أستطع الكلام، ثقل لساني وأطبقت شفتاي ولم أعد قادرة على فتح فمي. كل الذين من حولي كانوا يظنون أني نائمة، كنت أسمعهم وأراهم، لكني لم أستطع الرد عليهم، مرت ساعات الصباح ببطء حتى جاء وقت الظهيرة وأنا على الحالة ذاتها، لم يتغير شيء، فتساءلوا لماذا أنا هكذا؟ فأجابت ابنتي الأخرى: - إنها لم تنم في الليلة الماضية، وهذا هو السبب، إنها متعبة فقط. كانت ساعات النهار طويلة وأنا أنتظر مجيء ابنتي كي أودعها وأذهب. وأنا مستلقية على سريري، كنت أرى جميع غرف المنزل، دهشت من حالتي، كنت أشعر أن مجموعة من الناس يسيرون في الشارع متجهين صوب منزلنا، وقفوا عند الباب ولم يدخلوا، من هؤلاء يا ترى؟ وماذا يريدون؟ آه، أنا أعرفهم، إنهم أقرب الناس إلى قلبي، إنها أمي، وهذا أبي، وزوجي، وجميع أقاربي المتوفين، تيقنت أنهم أتوا من أجلي، ووقفوا ينتظرون خروجي إليهم، لكن الغريب في الأمر أن لا أحد غيري يراهم، أو يحس بوجودهم ويسمع حديثهم، وهم يستعجلون ذهابي معهم. كان لدي عمل أخير أردت إنجازه قبل ذهابي معهم، أردت توديع ابنتي، فقد وعدتها بوداع، في تلك اللحظات اتصل ابني بالطبيب الذي يتولى علاجي، كان يظن أني لا أسمعه ولا أراه؛ لذا تحدث أمامي، فسأل الطبيب عن حالتي، كنت أسمعه وهو يخبره أنها لحظاتي الأخيرة، انهار جميع من حولي وهم يذرفون الدموع علي، أثقلت أجفاني، كنت أجاهد لتبقى عيناي مفتوحتين لأرى ابنتي عند مجيئها، أبقيت عيني شبه مفتوحتين تنتظران قدومها. لقد وصلت ابنتي، إنها تشق طريقها وسط المنتظرين من دون أن تراهم، لكنهم يرونها، حتى أني شعرت بنظرات والدها تلاحقها بعطفه الأبوي، كأنه يريد احتضانها ليواسيها لما سيحل بها بعد قليل. جاءتني مسرعة بعد أن أخبروها بما قاله الطبيب لهم، انحنت تقبلني، عندها بدأت أغمض عيني مودعة إياها، ذاهبة إلى مكان آخر بعيدا عنهم. دخل كل من أبي وأمي وزوجي المنزل ليأخذوني، وقفوا عند باب الغرفة، حينها هممت بالذهاب معهم، يا للعجب! أنا أستطيع تحريك قدمي، قمت من مكاني وكان صوت صرخات أولادي وبناتي يتعالى، تقدمت خطوات إلى باب الغرفة، التفت لألقي النظرة الأخيرة عليهم، جاءني صوت ابنتي الزائرة وهي توقظني من النوم، قائلة: أمي، جلبت لك الطعام، هيا نتناول الإفطار معا.