شَهَادةُ النُّور
تواطأت زُمر الشرّ على أن لا تُبقي للحق راية تخفق، وصوتاً يدوّي، فيكشف زيغ الظالمين وفسادهم، فاجتمعت ضلالتهم على أن يطفئوا نور الهدى؛ ليبقى الظلام يواري انحرافهم وفسادهم، فامتدت يد الشيطان لتصافح ابن ملجم اللعين في عتمة الليل، وفي ختلة وغدرة هوت بالسيف على هامة طالما استدبرت الدنيا واستقبلت بيت الله وهي ساجدة، وغادرت الدنيا وهي على تلك الحالة، ولم يكتفوا بهذا، بل استمرّ حقدهم الدفين على طول الدهر، فمنعوا تداول أحاديثه، والتسمّي باسمه، ولاحقوا شيعته في كلّ مكان، ومع ذلك بقي ذكره كالمسك، كلما كتم عليه أعداؤه ازداد انتشاره، وكان كضوء النهار، وإن حُجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة. يا أبا الحسن، بأبي أنت وأمي، لأنت الذي يسعى أعداؤك باستمرار إلى إطفاء نور فضائلك، ويخاف أحباؤك من ذكر مناقبك تقيةً، ومع كلّ هذا ظهرت من فضائلك ما شمل العالم شرقه وغربه، وهذا هو الإعجاز الإلهي. لقد ملكت كنوز العالم في خلافتك، فكانت تُجبى إليك الأموال من كلّ بقاع الدولة الإسلامية، ولم تُدخِل في جوفك إدامين؛ خوفاً من إطالة وقوفك أمام الله (عز وجل)، وذلك حينما قدّمت إليه ابنته أم كلثوم طعام الإفطار في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، إذ قال: "يا بنيّة، أتقدّمين إلى أبيك إدامين في فرد طبقٍ واحد؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدي اللَّه (عز وجل) يوم القيامة؟ أنا أريد أن أتّبع أخي وابن عمّي رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، ما قدّم إليه إدامان في طبقٍ واحد إلى أن قبضه اللَّه، يا بنية، ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلّا طال وقوفه بين يدي اللَّه (عز وجل) يوم القيامة، يا بنيّة، إنّ الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب".(1) فأين منك ملوك الأرض وفراعينها؟ كانت تلك الليلة التي ضُربت فيها على هامتك، قد قضيتها بالدعاء والصلاة، فقد كنت تدعو فيها: "اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لي في لقائك"(2) وكنتَ تقول: "واللَّه ما كذبتُ ولا كذِّبتُ، وإنّها الليلة التي وُعِدتُ بها".(3) وحينما ضربك اللعين ابن ملجم على هامتك الشريفة أطلقت شعارك الخالد: "فزتُ وربّ الكعبة"(4) وهو شعار الشخصية الربانية المرتبطة بالذات القدسية منذ ولادتها، فمن الكعبة احتضنه الرسول (صلى الله عليه وآله)، فغذّاه من روحه الطاهرة، كان صلباً في ذات الله، مدافعاً عن قيم السماء، وكان يسأل، وهو الذي قال: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددتُ يقينا"(5) يسأل الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله): "يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك، قال: يا رسول الله إذا سلم لي ديني فما يسوؤني ذلك"(6)، حينما أخبره (صلى الله عليه وآله) عما سيحدث له بعد دفنه (صلى الله عليه وآله). ارتجت الأرض وارتفع صوت النعيّ في السماء وهو يرنّ في أرجاء المعمورة بصوت جبرائيل (عليه السلام): "تهدّمت والله أركان الهدى، وانطمست أعلام التقى، وانفصمت العروة الوثقى، قُتل والله علي المرتضى، قُتل الوصيّ المجتبى، قُتل خاتم الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء"(7)، ولمّا سَمِع الحسنان (عليهما السلام) صرخات الناس ناديا: "وا أبتاه، وا علياه ليت الموت أعدمنا الحياة"، فلمّا وصلا إلى الجامع ودخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس، وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس، فلم يُطق النهوض، وتأخر عن الصف، وتقدّم الحسن (عليه السلام) فصلّى بالناس، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يصلي إيماءً من جلوس.(8) هذه سيرة أهل البيت (عليهم السلام)، فهم وإن كانوا في أشد الحالات لم يؤخروا في الصلاة، فقد كان (عليه السلام) أعبد الناس وأكثرهم صلاة. وكانت وفاته في ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، وكانت ليلة الجمعة سنة أربعين من الهجرة، فعند ذلك صرخت زينب بنت علي (عليها السلام) وأم كلثوم (عليها السلام) وجميع نسائه، وقد شقّوا الجيوب ولطموا الخدود، وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الكوفة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد قُبض، فهُرِع الرجال والنساء أفواجاً أفواجا، وصاحوا صيحة عظيمة، فارتجت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب، وكثر الضجيج فيها وفي قبائلها ودورها وجميع أقطارها، فكان ذلك اليوم كيوم مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلمّا أظلم الليل تغيّر أفق السماء، وارتجت الأرض وجميع مَن عليها بكوه.(9) وبعد دفن جثمانه الطاهر، وقف على قبره الشريف صعصعة بن صوحان العبدي وهو مِن أخصّ خواصه ووضع إحدى يديه على فؤاده، والأخرى أخذ بها التراب، وضرب بها رأسه، ثمّ قال: (بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، ثمّ قال: هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقَوِي صبرك، وعَظُم جهادك، وظفرتَ برأيك، وربِحتَ تجارتك، وقدمتَ على خالقك، فتلقّاك الله ببشارته، وحفّتك ملائكته، واستقررتَ في جوار المصطفى، فأكرمك الله بجواره، ولحقتَ بدرجة أخيك المصطفى، وشربت بكأسه الأوفى)(10) ............................. (1) موسوعة الإمام علي (عليه السلام): ج8، ص29. (2) بحار الأنوار: ج42، ص278. (3) موسوعة الإمام علي (عليه السلام): ج8، ص27. (4) بحار الأنوار: ج42، ص239. (5) مناقب آل أبي طالب: ج1، ص370. (6) بحار الأنوار: ج28، ص66. (7) وفيات الأئمة: ج1، ص59. (8) بحار الأنوار: ج42، ص283. (9) بحار الأنوار: ج42، ص291. (10) موسوعة الإمام علي (عليه السلام): ج8، ص73.