شهر رمضان: رحلة روحية وضيافة ربانية

زهراء حبيب القلاف/ البحرين
عدد المشاهدات : 5

تحفة إلهية سامية، ونعمة يقدرها أصحاب البصائر ويغتنمونها، فيختارون إيداع أفئدتهم في ربوعها، وزرع قلوبهم في دفئها؛ طالبين بذلك السلامة والزيادة والاقتراب والوصول، وكل ينال بقدر همته، وصفائه، وصدق نيته. موسم إيماني خاص، ينتظره السالكون إلى الله تعالى، له خصائص زمانية، وخصائص تكوينية، وهبات يتفرد بها، مما لا تحيط به العقول البشرية المحدودة. شهر نسب في عظمته وكماله إلى الله سبحانه؛ ليكون بتلك النسبة الخاصة موضع ري أهل القرب، ومحطة أنسهم. شهر رمضان قطعة من الجنة في صحراء الأرض، أفرده الله سبحانه بخصائص لم ينلها غيره من الشهور، فبين غل الشياطين، وإفاضة النفحات التي تتغلغل إلى قلوب العباد لتكسبهم سكينة وانجذابا ورغبة في الصلة بالله تعالى، وبين خصوصية القرآن الكريم في ربيعه الذي يورث الأرواح قابلية الازدهار والاخضرار بعد الذبول الذي يورثه عبور الغافلين في خريف الأرواح والاحتراق في شتائها، إضافة لما أتحفنا به السادة الهداة من كنوز الأدعية ذات المضامين العالية التي تحمل الروح على التحليق في سماء الضيافة الإلهية الخاصة، وغيرها من أصناف الموائد الإلهية الممتدة في عالم الإمكان المتصلة بعالم الملكوت، غير أن جميع ما يمتاز به الشهر الفضيل لا يعدو كونه تذليلا من الله سبحانه من أجل الوصول، وعليه، فالجهد الأكبر ملقى على عاتق الإنسان ذاته، هو وحده من يقرر التداوي، أو النأي بنفسه والبقاء في مهاوي الشيطان، منتظرا لحظة السقوط والتردي. الإنسان بنفسه يختار طريق الروح المعبدة أم طريق النفس المظلمة الوعرة التي كان المطيع فيها لهواه وشيطانه، فمن يختار طريق الروح ممسكا بحبل موصلٍ إلى السماء، فإنه يجد الانقلاب في عمق ذاته، تتبلور له أبجديات الصلاح والتجدد إلى درجة تصبح الأرض غير الأرض، والسماوات غير السماوات وهو بارز لله تعالى وحده، فيرى بعين البصيرة تدني حجمه وحقيقته أمام العظمة والكمال الإلهيين، فتشتعل كينونته حبا وشوقا لله تعالى، وذوبانا في طاعته والتقرب إليه: )كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى‏ على‏ سوقه( (الفتح:29)، ولا يكتفي بذلك، بل يدرك أن الوصول إلى الله تعالى لا تتم حقيقته حتى تتشرب روحه الموالاة والذوبان في واسطة الفيض، فيدور حول المجهولة قدرا؛ ليأنس بمحاولة الاقتراب منها والتعرف عليها، وبذلك يصل الفرد إلى ليلة قدر استثنائية، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: "...فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر..."(1). وأما من أنقص حظ نفسه، وتعثر بهواه، وبقي حائما مرتقبا إطلاق الشياطين، يهوي ويقوم بحول الله وقوته، ثم لا يدرك أن الله سبحانه قد أعانه، يمر على أبواب الخير المشرعة غافلا، فما يحصد غير الندم على ما فرط في حق نفسه، من الاغترار بالدنيا والركون إليها، حتى إذا حصحص الحق، وانجلت عن بصيرته الحجب، كان مصداق قوله تعالى: )ويوم يعض الظالم على‏ يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا( (الفرقان:27)، حينها يشعر بعمق ما فرط: )يقول يا ليتني قدمت لحياتي( (الفجر:24). نسأل الله سبحانه أن يكون موسم الضيافة الإلهية موسم الصحوة التي لا تراجع بعدها، والاستنارة التي لا يعقبها ظلمة، والانتهال الذي يزداد كل يوم من دون أن يصيبه الجزر والتصحر. ............... (1) بحار الأنوار: ج43، ص٦٥.