سنابل معدودات
قبل عقدين من الزمن قاتلت بشراسة؛ لتنال ما تمنت من كنوز وأموال، صلت في محرابها لربها وتضرعت إليه أن يهبها ما وهب نبيه سيلمان (عليه السلام) أو ملك قارون، بدأت تجوب الأرض شمالها وجنوبها، وما تركت كتابا يتحدث عن كيفية اكتساب الثروة إلا وقرأته، سعت وعملت فكان لها ما تمنت. وفي ربيعها الـ(35) فاحت رائحة ثرائها، وتسنمت مراكز مرموقة، فكانت الصدارة عنوانها، لكن مسيرة نجاحها دفع ثمنها أبناؤها الذين خسرتهم بعد انفصالها عن والدهم، كانت في نيتها توفير مستقبل زاهر لهم، لكن إغراء الثروة أعمى بصيرتها، فكان كل شيء لديها يشترى بالمال، وكانت تجزم بأن السعادة تشترى بالمال، لكنها تأكدت أن العكس صحيح، فبعد وعكة أصابتها فجأة، عجز الأطباء عن كشف علتها، استغرقت وقتا طويلا في رحلتها للبحث عن علاج ولم تعلم أن العلاج يكمن في البحث عن الله تعالى. تعالت أصوات الداعين سراعا: (مرحبا، مرحبا يا شهر رمضان)، عانق هذا الصوت الملائكي روحها الضائعة، شبان وشيبة، نساء ورجال مبتسمون، البياض يكسو القلوب قبل الأبدان. مرحبا بقدوم هذا الضيف العزيز! زورت شهادة ميلادها، فقد ولدت روحها من جديد فور دخولها الشهر المبارك، وهي تتلو قوله تعالى: ﴿وتزودوا فإن خير الزاد التقوى( (البقرة:197) و﴿أيامٍ معدوداتٍ( (البقرة:203) و﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيناتٍ من الهدىٰ والفرقان ((البقرة:185). كانت الآيات ترتسم أمامها، والحروف تظهر سريعا أمام عينيها؛ لتشعر أنها وصلت، وأن رحلتها قد شدت اليوم حيازيمها، صوت في وسع البحر وحجم الأرضين يلمها، يطمئنها، كأنه حضن الأم، هي لا تحتاج إلى إقامة، فمساماتها تقيم فيه، فحب الله تعالى فطرة.. هنا العبادة التي ترتقي بالنفس فتزكيها، هنا يزهر اليقين، وتفتح أبواب الفرج في زحام انشغالها، وقع نظرها على لافتة كتب عليها: رسالة الله لك: "للصائم فرحتان، فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه"(1)، وفي نهاية اللافتة مكتوب: (إذا أحببت أن تتبرعي بما تجود به يداك للإسهام في توزيع سلات غذائية على العوائل المتعففة، فاتركي مبلغا من المال داخل الصندوق)، فهرعت لتفرغ جميع ما تحمله محفظتها من مال وتجعله في صندوق التبرعات. وأخيرا استيقظ شيء ما في داخلها، هالة قدسية أشرقت داخل روحها المقبورة، وفي طيات أصوات المهللين، شمخت سنابل الإيمان، حصدت ما زرعته؛ لتعلن لنفسها ولادة جديدة مع الله تعالى، فلا شيء يحدث مصادفة أبدا. ........................ (1) الكافي: ج4، ص65.