أنفاس معدودة

خديجة رحيم السعيدي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 6

موعد صلاة الفجر يقترب، نهض الليث الأكبر إلى محرابه، يسير بقلب مطمئن والكون خائف يترقب، وصل إلى عتبة داره فرفض المسمار خروجه، وناح الأوز أيضا، كل واحد منهم يبدي حزنه بطريقته الخاصة، مضى والجدران تميل من بعده، ليلة مظلمة لا نور فيها سوى نوره الذي يسعى بين يديه، كل ما في الكوفة يرتجف ما خلا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو مستبشر. دنا إلى المسجد والموت يدنو منه، صدح صوت أذانه من مئذنة المسجد وراح يدخل بيوت الكوفة كآخر فرصة لهم بالاستماع لصوت علي (عليه السلام)، تقدم صوب محرابه، خطواته منتظمة، دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى من الشهادة. وقف مكبرا: الله أكبر، الله أكبر.. صدى صوته اطمئنان آخر، علي (عليه السلام) واقف بين يدي ربه، وجدها أشقى الأشقياء أثمن فرصة لاغتياله، قام نحوه مثلما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، جرد سيفه الذي لم يكن ليجرؤ أن يجرده بوجهه إطلاقا، مشى وكل شيء يتوسل إلى رب الوجود أن ينهي علي (عليه السلام) صلاته ويلتفت، وقف الشقي خلف أمير المؤمنين (عليه السلام)، رفع السيف ثم أنزله.. انقطع الضوء، وانطفأت المصابيح، وأفل القمر، هناك ضجيج، لكن لا يعرف مصدره الحقيقي، أصوات البشر، أم الملائكة، أم الكون.. همسات، عويل ينبعث من أزقة الكوفة.. حملوه (عليه السلام) وهو يتكئ عليهم، أوصلوه إلى داره، فقال: أنزلوني هنا، لا طاقة لزينب على رؤيتي هكذا.. وأي قلب لديها؟ بل أي قلب يقوى على فقد علي (عليه السلام)؟ أسفر الصبح وتنفس نفس المهموم، صباح موحش، ينطق الفقد من تحت كل حجر ومدر، لا شيء يدعو للحياة، فتكاد مرارتها تزهق الأرواح، مد الموت يده ولن يغير هذا القدر الإلهي شيء. أشعر كأن الجميع ينادي: "ناد عليا مظهر العجائب"(1)، فهذه المرة الأولى التي لم يستجب فيها هذا النداء، المرة الأولى التي لم يظهر علي (عليه السلام) عجائبه، ولم يرد على الملهوف جوابه، وأما الآن، فالأمر ليس كالسابق، باتت أنفاسه معدودة كحبات المسبحة، هذه الضربة أخذته ولن تعيده. ....................... (1) بحار الأنوار: ج20، ص٧٣.