عفو المولى عنِ المسيء يوم القيامة

رجاء علي البوهاني/كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 76

إنّ مَن يتتبّع مجموع ما رُوي من الأحاديث الشريفة الواردة في (الشفاعة) يصل إلى قناعة بأنّها من الأصول المسلّمة في الشريعة الإسلامية، و(الشفاعة) بصيص الأمل وباب الرجاء الذي فتحته الشريعة الإسلامية في وجه العُصاة يوم القيامة، لكنّها ليست النافذة الوحيدة للعاصي، فإنّ الله تعالى قد يغفر للعاصي في ظروف خاصّة، سواء بالشفاعة أو بدونها إذا اقتضت حكمته ذلك، وقد يرد تساؤل: ألا يُعدّ الحكم بجواز العفو إغراءً للعصاة بإدامة العصيان؟! أليس العفو عن العاصي خُلفًا للوعيد وهو قبيح؟ وقبل الخوض في جواب هذه المسألة، لابدّ من تحديد العُصاة الذين قد تشملهم رحمة العفو هذه، فالعفو حتمًا لا يشمل الكافر والمشرك؛ لقوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ (النساء:48)، فإنّ مَن مات على الكفر والشرك، لا يُغفر له، ولا نجاة له، والصفح عنه إغراء بالشرك، وخضوع لغير الحقّ والعدل، فيبقى محلّ الكلام فيمن حمل اعتقادًا صحيحًا وكان من أهل المعرفة والإقرار بالفرائض، وقد مات وهو من مرتكبي الذنوب والمعاصي في أنّه قد يُوفّق للنجاة من الخلود في النار، أو يعفو الله سبحانه عنه. واتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالنار خاصّ بالكافر، وأمّا مرتكب الكبيرة فأنّه لا يُخلّد في النار، (واتّفقت الإمامية على أنّ مَن عُذّب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة، لم يخلد في العذاب، وأُخرج من النار إلى الجنّة، فيُنعّم فيها على الدوام)(1). إذن نصل إلى أنّ العفو إنّما يناله مَن كان من أهل الاعتقاد الصحيح وكان من العاصين، فإنّ شخصًا كهذا قد يشمله عفو الباري جلّ وعلا، فالكلام إنّما هو في جواز العفو لا في حتميته، نعم لو كان الأمر في حتمية العفو عنه لكان حقًّا أنْ يُقال إنّه إغراء بالمعصية. ويبقى أنّ التعذيب حقّ للمولى سبحانه وله إسقاط حقّه، وهو إحسان منه سبحانه على العبد، فلا مانع - إذا اقتضت الحكمة - من العفو عن العاصي في ظروف خاصّة(2)، فالخلف بالوعيد ليس بقبيح، بل إنّه ممّا يستحسنه كلّ عاقل، فالخلف بالوعد قبيح لا الوعيد، فإنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد، فلو كان العفو من الله تعالى مع الوعيد قبيح لكان هذا ثابتًا عند كلّ عاقل، والحال أنّ كلّ العقلاء يستحسنون العفو بعد الوعيد، إذًا بطل قبح العفو من الله تعالى بعد الوعيد. ................................ (1) أوائل المقالات للشيخ المفيد: ص47. (2) الإلهيات: ص٤٦٠.