جنة البقيع رفيقة القدر

زبيدة طارق الكناني/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 43

في مدينة الحبيب دخلت محرابها خاشعة.. وبين التراتيل والمناجاة، وقراءة ما تيسر من أجزاء الغربة الهاربة عبر حدود الزمن، كانت التكبيرة تلهب فتيل الخواطر بأطياف الدهشة، تزور أروقة تأملاتها، تثير زوبعة ذكريات عالقة بحنجرة الفصول، تردد أصداء فحيح حلم تجلى في ثنايا سمائها سحاب ونجم باهت الألوان، والأرض باتت تنزف دمعها في جوف المتاهات، تبحث في حضنها الأخضر عن أوتار الحياة، وأمل يعاند الأيام.. ونحيب حجارتها المبعثرة يؤرق السماء، أيقظت بصراخها جرح ضاع في متاهات الجراح، تأخذنا معها في سفر بعيد أرغمتنا على التوقف فوق أوجاع قبور البقيع.. ففي كل يوم أكف الغدر والظلم توقد فيها النيران وتترك دخانا يسافر مع أشرعة الأقدار لتحل مدن الرماد.. تغرق الشمس في بحر الضباب، وتحمل نعش الحياة على الأكتاف، وتمضي إلى حتفها الأخير، فلا زهر ولا ربيع.. أعلم أن ليلها غيب الزفرات، وأحلامها مرصودة، والهموم فيها تحتج على الواقع المشؤوم.. وأن عقارب الشوق إليها تركض حائرة، ضعيفة الحيلة، تتسمر أقدامها صمتا وتمضي، ولا تسمع فيها للطيور تغريدا، لكن عواصف الأحزان القديمة لم تنسها أحزان البقيع الجريح.. أعلم أن البقيع كسامراء.. أرض تخضر فيها كرامات من فيض قباب المعصومين (عليهم السلام)، تحيي شموخها وخلودها، فتنسج فوق هامات الوجود من خيوط الشمس مآذن البهاء، يعلو نداء السماء، يخلد تكبيرة الأذان وتحكي الجنان عن القناديل التي تزينت بها من دماء الشهداء.. تطوي ستار الخوف، وتنتزع نظرات الترقب من العيون الوالهة الحزينة، وتجمع النبضات الخافقة نبضة، نبضة، تطرزها بوشاح من نور يدثر أنفاسها المنهكة، توثق بها تاريخ الأمة.. فنجوم المجد لا تزال تلقي على أمسها تحاياها.. أعرفها مثلما أعرف سامراء بأنها ستنهض من رحلة السبات، وسترسم حلم مراقد النور كأنها إشراقة الفجر..