رياض الزهراء العدد 217 الحشد المقدس
عند الغروب رحلت حمامة
قاربت الشمس على الرحيل، فالتفت (حميد) إلى جدته قائلا: لماذا لا تزالين واقفة في المكان ذاته؟ ماذا تنتظرين يا جدتي؟ ألنا غائب سيعود؟ ماذا يوجد خلف البستان يا حمامتي؟ استدارت الجدة لترمق حفيدها بنظرة اختلط فيها الحب والحزن معا، قائلة: من أنت يا بني؟ تنهد الفتى وقال متذمرا: في كل مرة أسرد سيرتي الذاتية عليك يا حمامة؟ ابتسمت وقالت: لا بأس يا بني، قل لي من أنت؟ أجابها: أنا ابنك يا أمي، هكذا قالت لي أمي قبل موتها إنك أولى الناس بي، وإنك أم أبي فأنت أمي وجدتي، سميتك (حمامة) لأنك تشبهين الحمامة، غير أنك بدلا من الجناحين تستندين على العكازة ويداك ترتجفان، والآن هل نذهب يا جدتي قبل أن يحل الظلام؟ قالت: لكن إلى أين، فلا يزال هناك متسع من الوقت، يا بني انتظر. فقال: ماذا ننتظر؟ هل سيأتي أحد يا حمامة؟ فقالت له: لا تكن عجولا يا بني، انتظر فسيأتي، أخبرني في منامي فجر اليوم قائلا: إني مشتاق إليك يا أمي، تعالي إلى البستان، سوف آخذك معي، وأنا أنتظره، لكن قل لي كم عمرك يابني؟ أجابها: (12) عاما، أنا منذ ولادتي حتى الآن أعيش في أحضانك الدافئة يا جدتي، وما يزيدني ألما نسيانك إياي في أغلب الأحيان، فقد كانت ذاكرتك يا جدتي هي الحياة بالنسبة إلي، فكثيرا ما أجد فيها صورا وأحداثا لأبي، وإن فقدانك لذاكرتك هو فقداني لكثير من التفاصيل عن أبي، والآن أخبريني من سيأتي ليأخذك معه يا جدتي، وهل سأذهب أنا أيضا؟ فقالت بعدما أطالت النظر في وجهه: إن أباك سيأتي ليأخذني معه، أما أنت فلم أرك في منامي، ولا أظنه سيأخذك معنا، الجو بارد يا بني، تعال لأضعك تحت عباءتي. فقال وهو يقترب من جدته: ما هذا الرداء الذي تلبسينه تحت العباءة؟ كأنه زي عسكري؟ قالت: نعم، هو قميص أبيك وآخر ما تبقى منه، أنا أرتديه منذ (10) سنوات، غير أن مقاسه تغير، يبدو كبيرا جدا، على الرغم من أني طويت أكمامه، لكنه ما يزال كبيرا. فقال لها: لم يكبر يا حمامة، بل قد نحل جسمك، هل نذهب إلى البيت، ربما يأتيك أبي في منامك هذه الليلة أيضا، هل أحدثك عن شيء يجول في خاطري أود معرفته؟ قالت: كلمني يا عزيز روحي ومهجتي. فقال: منذ كنت صغيرا، كنت تحملينني على أكتافك، وتأتين بي إلى هذا المكان، تجلسين هنا حتى غروب الشمس، ثم نعود أدراجنا إلى البيت. جلست على الأرض، بدأت تتمتم بدعاء وتنطق الشهادتين، رفعت عينيها إلى السماء، ثم نظرت إلى حفيدها، تأملت وجه حفيدها الصغير، فاعتصر قلبها لوحدته بعد أن استشهد والده في جبهات القتال، ثم موت أمه عند ولادته، اعتذرت منه بأسى، سمعت صوت بكائه ونحيبه، فرأت طيف ابنها وهو يرتدي بدلته العسكرية الأنيقة، أمسك بيدها، ثم فاضت روحها تاركة الجسد الهزيل لذلك الطفل الصغير. صاح الطفل باكيا: لا ترحلي يا جدتي وتتركيني وحيدا، فأنت آخر ما تبقى لي، قولي لأبي أن يأتي ليأخذني في المرة القادمة، سأنتظركم هنا عند كل غروب.