رياض الزهراء العدد 217 بريد القراء
السعادة والرضا: رحلة في أعماق الذات
السعادة والرضا ليسا محطتان نصل إليهما ونستقر فيهما، بل هما رحلتان متجددتان تنبثقان من عمق الذات، وفي عالم يتسارع فيه إيقاع الحياة، وتزداد فيه الضغوط يصبح البحث عنهما هاجسا يشغل بال الكثيرين، لكنهما كثيرا ما يظلان بعيدي المنال بسبب سوء فهمنا لما يمنح حياتنا معنى حقيقيا. في الماضي كان السفر من بلد إلى آخر يعد تحديا شاقا، قد يستغرق شهورا من التحضير، وكان المسافر يحمل زاده المتواضع متوكلا على الله تعالى؛ ليشق طريقه عبر الفيافي والجبال والأودية، متحديا الظروف الطبيعية وغيرها، والموت كان متربصا به في كل زاوية: بين أنياب سبع جائع، أو سيف قاطع طريق، أو حر لاهب، أو برد قارس، ومع كل هذه المشقة كانت لحظة الوصول بمنزلة ميلاد جديد يستحق سجدة الشكر، إذ كانت أولى خطوات المسافر في أرض السلام، يعبر فيها عن امتنانه العميق لله تعالى الذي يتجاوز الكلمات، أما اليوم، فقد تغيرت الأحوال، وأصبح السفر سهلا وسريعا، لكنه فقد جزءا من قيمته، إذ نقطع آلاف الكيلومترات في ساعات قليلة بالطائرات النفاثة، لكننا نشكو ونضيق ذرعا بالتأخير لبضع دقائق، فهذه السرعة التي سهلت حياتنا، قد سلبتنا الشعور بقيمة الشكر، وبساطة الفرح الذي كنا نشعر به في الماضي، وفي المستقبل عندما نقطع المسافات بين الكواكب في ساعات معدودة، فقد نجد أنفسنا أكثر تذمرا، فالتكنولوجيا التي اختصرت المسافات، لن تختصر المسافة إلى السعادة، بل ربما تزيدنا بعدا عنها. إن السعادة الحقيقية لا تكمن في تراكم الممتلكات أو رفاهية العيش، بل في التجارب التي نعيشها بعمق، ففي الماضي كانت المشقة تمنح الإنسان شعورا أصيلا بالإنجاز، والفرح كان ينبع من الانتصار على التحديات، أما اليوم فتسرق السهولة هذا الإحساس، وتجعلنا نلهث بلا توقف وراء المزيد من دون إدراك قيمة ما نملك، فالسعادة تكمن في التفاصيل الصغيرة التي نتجاهلها في الغالب، كلقاء بصديق عزيز، أو قراءة كتاب يثري الروح، أو لحظة صمت وهدوء مع احتساء فنجان من القهوة في الصباح، أما الرضا فهو حالة من القبول الواعي للواقع، مع السعي إلى تحسينه، فلا يعني الرضا الاستسلام، أو التوقف عن الطموح، بل يعني قبول ما نملك، والعمل الجاد لتحقيق ما نطمح إليه من دون الوقوع في فخ المقارنة والطمع. مفاتيح السعادة والرضا: للوصول إلى السعادة والرضا لابد من امتلاك مفاتيح أساسية: أولها شكر الله تعالى على جميع عطاياه، فعندما نتأمل النعم مهما كانت ونشكر الله سبحانه عليها، فسنكتشف حجم تلك النعم، ونصبح أكثر وعيا بجمال الحياة التي غفلنا عنها، وثانيها العلاقات الإنسانية، إذ يعزز الوقت الذي نقضيه مع أحبائنا والكلمات الطيبة التي نقدمها ونتلقاها من شعورنا بالانتماء، وهو أساس السعادة، وثالثها السعي نحو هدف أسمى يتجاوز التمحور حول ذواتنا، سواء مساعدة الآخرين، أو تحقيق إنجاز شخصي، أو الإسهام في تحسين أوضاع العالم؛ لنجد بذلك معنى أعمق لحياتنا. السعادة والرضا ليسا مشاعر دائمة، لكنهما مسار حياة يتطلب الصبر والوعي، وعندما نعيش كل لحظة بالحمد والشكر لله تعالى، ونحسن علاقتنا مع الآخرين، ونسعى إلى تحقيق هدف نبيل، فسنصبح أقرب إلى تحقيق السعادة والرضا اللذين نصبو إليهما.