العَدْلِيَّة

رجاء علي مهدي/ التوجيه الديني النسوي
عدد المشاهدات : 216

مرّ علم الكلام في العالم الإسلامي بتطورات ومراحل تاريخية متعددة ظهرت خلالها مذاهب وفرق كلامية اختلفت فيها الآراء والمتبنيات العقائدية، وأدت في بعضها السياسة دوراً خدم مصالحها، ومن هذه القواعد الكلامية التي اختلف المسلمون فيها وتبنتها بعض الفرق الكلامية هي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وهو ما يُطلق عليه بالعدل الإلهي. العدل لغة:(1) العَدْل ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم وهو ضِدُّ الجَوْر عَدَل الحاكِمُ في الحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وهو عادِلٌ. والعدل في اصطلاح المتكلمين: (وضع الشيء في موضعه والقيام بكلّ فعل على وجه حسن) وعلى وفق هذا التعريف يكون العدل مرادفاً للحكمة، والفعل العادل مساوياً للفعل الحكيم.(2) وعلى الرغم من أنّ المسلمين جميعاً يعتقدون بأن الله (سبحانه وتعالى) عادلاً، ولا يقول أحد منهم بأنه ظالم، إذ ينطلق اعتقادهم هذا من نفي القرآن لأي نوع من أنواع الظلم عن الله (سبحانه وتعالى)، بوصفه قائماً بالقسط، وأنه لا يظلم مثقال ذرة، ولكنهم اختلفوا في تفسير هذا العدل، واختار كلّ فريق رأياً مختلفاً بحسب نظرية اعتقاده، فانقسموا إلى فرقتين: الأولى تُدعى بالعدلية: وهم كلّ من الإمامية والمعتزلة، ويعود سبب تسميتهم بالعدلية نسبة إلى اعتقادهم وتبنيهم مبدأ التحسين والتقبيح العقليين، والذي لزم منه إفراد صفة العدل عن باقي الصفات، وجعلها أصلا من أصول الدين. ويرجع مبنى اعتقادهم إلى أن العقل البشري السليم يدرك بنفسه حسن الأفعال وقبحها، ويعدّ الفعل الحسن علامة على كمال فاعله، والفعل القبيح علامة على نقصان فاعله، وأنّ الأفعال تتصف في ذاتها بالحسن والقبح بغض النظر عن انتسابها التكويني والتشريعي إلى الله (سبحانه وتعالى) ويمكن للعقل إلى حدٍّ ما أن يدرك جهات الحسن والقبح في الأفعال، وليس معنى هذا الإلزام من العقل بأنه يأمر الله (سبحانه وتعالى) والعياذ بالله وإنما معناه أنّ الله (سبحانه وتعالى) ذاته مستجمعة لجميع صفات الكمال، فإنّ فعله كامل ومحمود وذاته المقدسة منزهة عن كلّ فعل قبيح، والظلم قبيح والله (سبحانه وتعالى) منزّه عن فعل القبيح، إذن فهو عادل. وأمّا أدلة العدلية على هذا فهي:(3) الأول: بداهة العقل كلّ إنسان يجد في نفسه حسن العدل وقبح الظلم، وإذا عرض الموضوعين على وجدانه يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل واستحساناً له، وتنفراً عن الظلم وتقبيحاً له، وهكذا سائر الأفعال التي تعدّ من مشتقات العدل والظلم. وإلى ما ذكر يشير العلّامة الحلي في شرح تجريد الاعتقاد ويقول: إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع، فإن كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه، ويقبح الإساءة والظلم ويذم عليه، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك، وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف بالشرائع.(4) والدليل الثاني هو الدليل النقلي: فإن هناك طائفة من الآيات القرآنية التي تدل بظاهرها على عقلية الحسن والقبح، منها قوله سبحانه: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)/ (الأعراف:28). فإنّ المستفاد من ظاهر الآية أنّ الكافرين كانوا يفعلون القبائح مع اعترافهم بقبحها، ولكن كانوا يتعذرون بأنّ الله (عزّ وجل) أمرهم بذلك، فيبطل القرآن مقالتهم بأنّ الله (عزّ وجل) لا يأمر بالفحشاء، ومنها قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)/ (لقمان:13) ففي هذه تعليل لقبح الشرك بأنه ظلم عظيم وهذا يدل على أن قبح الأفعال تابع لملاكات عقلية مرجعها إلى الظلم، فالشرك قبيح؛ لأنه ظلم، والظلم قبيح لذاته لا يعلل قبحه بعنوان آخر غيره. أمّا الفرقة الثانية فهم الاشاعرة:(5) وهم من المذاهب الرسمية الاعتقادية لأكثر أهل السنة، والتي تتبنى رأي البلكفة(6)، والكلام النفسي، والجبر مع الكسب، وإنكار لزوم العدل على الله تعالى. مبناهم: ذهب أصحاب هذا الفريق إلى أنّ التعرف على حسن الأفعال وقبحها رهن بيان الشرع، فما حسّنه الشارع فهو حسن، وما قبّحه فهو قبيح، وليس للعقل سبيل إلى معرفة حسن الأفعال وقبحها، ولكنهم غفلوا عن مضاعفات هذا القول، إذ لازمه عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتى الشرعي منها. فأنكروا قاعدة الحسن والقبح العقليين، ورفضوا حكم العقل في ذلك المجال، وقالوا لا حسن ولا قبيح في الأمر نفسه. فمعنى عدله تعالى أنّ كلّ ما يفعله فهو يكون حسناً لا أنه يفعل ما هو حسن في ذاته، فعلى تفسير الاشاعرة لو كلّف الله تعالى العباد بما ليس في وسعهم وطاقتهم لم يكن قبيحاً، وهذا بخلاف مذهب العدلية، فإنّ القبيح قبيح بذاته سواءً فرض صدوره من العبد أم من الله تعالى. فكان لازم رأي الأشاعرة في تفسير عدله تعالى هو نفي العدل والحكمة في الحقيقة، وهذا الذي جعل العدلية (القائلين بالحسن والقبح العقليين) أن يجعلوا العدل أصلاً من أصول مذهبهم؛ لكي يعلنوا بأنّ معتقدهم هو الحق والصواب من دون المنكرين لتلك القاعدة. ................................... (1)لسان العرب: مجلد 9، ص83. (2)دروس في العقيدة: ج1: ص181. (3)المغني في دروس العقيدة: ص15. (4)المغني في دروس العقيدة: ص15. (5)القواعد الكلامية: ص67. (6)البلكفة: قولهم بلا كيف/ بحوث في الملل والنّحل: ج2، ص389.