رحيل سندي!

فاطمة رحيم المعيوفي/النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 34

كانت المعارك في أوجها حين انتهت إجازة الأخوين (علي وأحمد)، وحان الوقت ليلتحقا برفاقهم على الساتر، لقد ورثا حب الدفاع عن الوطن عن والدهم الشهيد، ودعا والدتهما الطاعنة في السن، ثم وقفا يتأملان صورة والدهما المعلقة على جدار غرفة الضيوف بزيه العسكري، وبطوله الشامخ ووقفته الصلبة، وبيده بندقيته، كأنهما يودعان أباهما مثلما يودعان أمهما في كل مرة.. بدأت الرحلة الطويلة، وكان حوار القلوب بصمت، حتى شعرا ببعضيهما ورغبتهما بالمحادثة الأخيرة، كأنهما شعرا بقرب الفراق.. علي: أتعرف الطريق إلى وجهتنا؟ أم تحتاج لإخراج الخارطة من الحقيبة؟ أحمد باستغراب: وهل لدينا خارطة؟ علي: أو لم تكن تعلم؟ نعم، إنها قصاصة كتبت عليها كل ما أملته علينا أمنا. أحمد: ولكن كيف لأمنا أن تعرف الطريق؟ علي: هي لا تعرف الطريق، لكنها على دراية بعواقبه! أحمد: تأكد من وجود كتاب الزيارات في الحقيبة كي لا تفوتني زيارة عاشوراء. علي: إنه هنا، وضعته وسط المعطف الذي أوصتني أمنا به كثيرا، وقالت بأنه ذخيرتها من مجالس الحسين (عليه السلام)، ثم طلبت مني ألا أضيعه. أحمد: أخي علي، الحرب قائمة والعدو قوي ومدعوم بالأسلحة والمعدات، ولا نعلم إن كنا سنعود أم أنها النهاية؛ لذلك أريد أن أوصيك لو حدث وعدت من دوني أن تزور الإمام الحسين (عليه السلام) بالنيابة عني. علي: كف عن هذا الحديث يا أحمد، سنعود معا ونزور الإمام (عليه السلام) إن شاء الله، والآن قل لي: أين نضع الحقائب؟ أحمد: خلف الساتر. علي: هل تمزح؟ أحمد: كلا، لكن لا يوجد هنا سوى الحرب. علي: هل تتذكر عندما كنا أطفالا قال لي أبونا ذات مرة وقد كان غاضبا مني عندما ذهبنا إلى الدكان ورجعت أنا إلى البيت قبلك: لا تترك يد أخيك مرة أخرى أبدا. أحمد: نعم، لا أنسى ذلك الموقف أبدا، ومنذ ذلك الوقت لم أفلت يدك، لكن الشهادة في سبيل الله يا علي قد تتطلب أن تتركني هذه المرة. حاول علي أن يغير الموضوع قائلا: لقد أحضرت بدلة لك بمناسبة التخرج، ومثلها لي، وسأكون معك يوم استلامك وثيقة التخرج، فلا تقلق أبدا. أحمد: ما تزال بطبعك الطفولي حتى الآن، تتغافل عما لا تود سماعه، لا بأس بذلك، لكن هل لك أن تعيرني انتباهك لأوصيك بشيء مهم يا أخي. علي: ماذا تريد أن تقول؟ أحمد: هل يمكنك أن تخفي عن أمنا أمر رحيلي إن نلت الشهادة؟ علي: يمكنني أن أبرر ضياع المعطف الخاص بها، ولا شك في أنها ستنزعج قليلا، لكن كيف سأخفي عنها أمرك؟ أحمد: إن أمنا وحيدة وليس لها أحد سوانا، وسيفجعها خبر موتي، فحاول أن تقول لها شيئا يهون عليها الأمر، وكرر على مسامعها أن الشهداء شفعاء يشفعون لذويهم. علي: في مذكرات والدنا وجدت بعضا من ملامح حكايتنا، فكأن ما يجري من حديث بيننا الآن، قد تنبأ به والدنا في مذكراته، فعند انتقالنا من البيت القديم، كلفتني أمنا بجمع الأشياء الخاصة بأبينا، كبندقيته، وصورته، وكتبه، وكان بينها مفكرته، فدعاني الفضول لقراءة شيء منها، فأخذت أقلب الصفحات حتى وقع بصري على ورقة مطوية، ففتحتها لأجد أن الحبر قد سال ليملأ أنسجتها، وعلى الرغم من ذلك كانت الكتابة واضحة وعميقة الأثر: (إن خير ما تترك في هذه الدنيا هو طيب الأثر، وأن ترحل عنها بخير العمل)، وها أنت قد اخترت الشهادة كأبيك وفضلتها على حطام الدنيا، فلا تقلق يا أخي، فإن عدت من دونك إلى أمنا، فسأبقى إلى جانبها ولن أدعها لوحدها.