رياض الزهراء العدد 93 أين أنت من هذا؟
حَرَائِرُ الوَفَاء
عندما تحين ساعة الصفر ويدقّ ناقوس الرحيل يحمل المبرد ليختبر المعدن الزائف من الأصيل، فيتميز عند ذاك ما يذهب جفاء عمّا يمكث في الأرض، ومن صلحت سريرته عمن خبثت طينته، لذا فقد جعل الله الابتلاءات كاشفة عن معادن الناس ومبلورة لسرائرهم، كما أنّ المحك كاشف عن أصالة المعدن من زيفه، ومن تلك الابتلاءات الكاشفة عن جواهر الرجال هو الدعوة إلى الجهاد، فمن خلالها يتبيّن صدق إيمان المرء ومدى استجابته لتلك الدعوة، فإن كان محباً لذاته ومتعلقاً بأولاده وعشيرته وأمواله فسوف يتردد في قبول تلك الدعوة أو يرفضها فيكون بذلك مستحقا للمقت الإلهي والعياذ بالله، كما يصف ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)/ (التوبة:24). فما أخطر ذلك التقريع لأولئك النفر الذين فضّلوا الدنيا الزائلة على محبة الله (عزّ وجل) ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وراحوا يبرّرون ويتذرعون بشتى الذرائع للتملص والتخلص من ذلك العبء الثقيل، ومن تلك الذرائع قولهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كما جاء في القرآن الكريم: (..إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ..)/ (الأحزاب:13) أي أننا إذا مضينا إلى الجهاد فإنّ بيوتنا التي تحوي النساء تصبح غير مأمونة ومعرضة لهجوم العدو، لكن الله تعالى ينفي زعمهم ويبيّن حقيقية ذلك التبرير بقوله: (..وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)/ (الأحزاب:13). إلّا أنّ هناك فرقة على النقيض من تلك الفرقة، وهم الذين آمنوا وصدقوا في إيمانهم بالله (عزّ وجل) ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وأوفوا بعهدهم مع الله (عزّ وجل)، ولم تغرهم الدنيا بإغراءاتها؛ لذا فقد استحقوا تلك البشارة من الله تعالى بقوله: (..وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)/ (التوبة:111). فهم يشعرون بالغيرة على دينهم، ويتسابقون إلى المنية، ويتهافتون على بذل الأنفس كتهافت الفراش على ضوء السّراج. ويؤكد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) على الرابطة الوثيقة بين الإيمان وبين إيثار محبته (صلى الله عليه وآله) على النفس والأهل والمال والولد عن طريق قوله: "والذي نفسي بيده لا يؤمنن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين".(1) فالذي يدّعي الإيمان يجب عليه أن يخضع لامتحان دقيق وصعب ليتبيّن من خلاله صدق مدّعاه، وهذه هي فلسفة الابتلاء: (..حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ..)/ (آل عمران:179). ومن أصدق مصاديق مَن آثر محبّة الله (عزّ وجل)ورسوله (صلى الله عليه وآله) على نفسه وولده سيّدتنا ومولاتنا أم البنين (عليها السلام) التي آثرت نصرة الدين والدفاع عن إمام الزمان على نفسها وولدها، فقد ضحت تلك السيّدة الجليلة بجميع أبنائها في سبيل تلك الغاية، ولم تتردد لحظة في ذلك، فعلى الرغم من أنها كانت امرأة كبيرة بحاجة إلى الرعاية والكفالة إلّا أنها آثرت مصلحة الدين على مصلحتها الشخصية، فضحّت بتلك الأقمار الزاهرة، ولم تستثنِ منهم واحداً، ولسان حالها يردد أن لو كان لي من الأبناء عشرة لفديتهم كلّهم وفاء لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأصبحت بحقّ سيّدة للوفاء الإنساني. وفي يومنا هذا نشهد الكثير من النساء المؤمنات الصابرات اللاتي حذونَ حذو تلك السيّدة الطاهرة، واقتفينَ أثرها، وسرنَ على دربها، ولم يؤثرنَ أنفسهنّ وأبنائهنّ على الله (عزّ وجل) ورسوله (صلى الله عليه وآله)، بل إنّ هاجسهنّ الوحيد هو نصرة الدين والدفاع عن المقدّسات، فرحنَ يستنهضن الهمم ويحثثنَ على الجهاد وامتثال أمر المرجعية الرشيدة إعلاءً لراية الحقّ، فأبينَ إلّا أن يسطرنَ أسطر نور في سجل سيّدة الوفاء، ويتركن بصمة في صحيفة أم النجباء (عليها السلام)، فأين نحن من ذلك؟ ............................... (1) بحار الأنوار: ج22، ص87.