"... وأوسطنا محمد"

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 11

(إن ٱلله ٱصطفىٰ ءادم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على ٱلعالمين، ذرية بعضها من بعض وٱلله سميعٌ عليمٌ) (سورة آل عمران، الآيتان 33 و34) كذا قال الله عز وجل في توصيف سلسلة الأنبياء واتصالها، "عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران... فهى إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء، وعن الإمام الباقر عليه السلام: أنه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم ونحن بقية تلك العترة." لعل من اللافت حقا في قضية الاصطفاء الإلهي هذه، أنها لم تقتصر على الأنبياء، بل تعدتهم إلى الأوصياء، وهو أمرٌ طبيعي، إذ إن الباري عز وجل ما كان ليترك خلقه سدى، بل إن حكمته ورحمته وعدله تقتضي أن يتابع خلقه في كل لحظة، ويفتح لهم سبل الهداية، ﴿الذي خلقني فهو يهدين﴾ (سورة الشعراء، الآية 78)، فيكون لهم في كل زمان هداةٌ ورعاة، يفتحون عيونهم على الحق حينما يغشي بريق الباطل الدنيا وتتزين لهم الأهواء... ﴿ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزىٰ﴾ (سورة طه، الآية 134). ومما لا شك فيه أننا باتباعنا لأئمة الهدى (عليهم السلام)، المنصوص عليهم من قبل الله عز وجل عبر نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإننا نتوخى طاعة الله في القول والعمل، ونرصد في كل فرد منهم ما حباه به الخالق من صفات نورانية كاملة، تعيننا على سلوك الصراط المستقيم الذي لا يتأتى إلا من خلالهم، ﴿قل كل متربصٌ فتربصوا ۖ فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدىٰ﴾ (سورة طه، الآية 135). كما أننا نعلم أن الأئمة عليهم السلام لم يتباينوا في صفات الكمال، إلا بقدر ما أراد لنا الله أن نرى من ذلك المثال، فكلهم مرتضى ومجتبى وشهيد، وكلهم سجادٌ وباقرٌ وصادقٌ، وكلهم كاظمٌ ورضا وتقي، ونقي وزكي ومهدي... وكلهم محمد، أو كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ولده الباقر وفي العترة النبوية عموما: "كلنا واحد من نور واحد وروحنا من أمر الله، أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد وكلنا محمد" . من هنا فإن تمييزنا لأحد الأئمة (عليه السلام) بصفة محددة، هو في الحقيقة بسبب ما واجهه هذا الإمام في زمانه من بلاء واصطفاء، كان مرتكزا بشكل بارز على تلك الصفة. ويحلو لنا أن نلاحظ ذاك اللقب الذي اتصف به الإمام محمد بن علي بن الحسين (عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام)، أي "الباقر"، الذي أطلقه عليه نبي الرحمة والهدى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفسره بأنه "يبقر العلم بقرا" ... فإن هذا اللقب بالذات يرتكز على صفة العلم، مما يميزه عن سائر ألقاب الأئمة (عليهم السلام) التي ترتكز على صفات سلوكية كاملة [السجاد (أو زين العابدين) والصادق والكاظم والتقي (أو الجواد) والنقي (أو الهادي) والزكي...] أو على صفات تربطهم باختيار الله عز وجل لهم [المرتضى والمجتبى والرضا والمهدي]... وهذا إنما يشير إلى ما واجهه الإمام الباقر (عليه السلام) تحديدا على مدى حياته الشريفة من ظروف وبلاءات، وما حمله على عاتقه في تلك الحقبة بالذات، مرحلة نهايات الحكم الأموي وبدايات الحكم العباسي، حيث فسح المجال أمامه بتوسيع إطار تبليغه، ووضع ركائز التشيع الحق، فقد قام الإمام الباقر عليه السلام بتبيين العديد من الجوانب العقائدية والفقهية والفكرية، مثل تجديد علم التوحيد، وتعليم الأمة تنزيه الله تعالى وتحصينها من التشبيه، وتوضيح مقام النبوة ورد التهم والشبهات حول شخصية النبي صلى الله عليه وآله، وكشف تحريفات سنته وسيرته من قبل الحكومات ورواتها، وبيان عقيدة الإمامة وأصالتها في نسيج الإسلام، وتحديد الفئة الناجية وإرساء معالم عقائدها، وبيان معالم الفقه الإسلامي ووضع أصول الفقه في مواجهة الفقه الظني والكيفي، الذي تبنته الحكومات وعلماؤها، وأصول الحديث في مواجهة الإسرائيليات والمكذوبات عند بعض الرواة. ذلك أن العصر الأموي كان عصر فتن وتضليل، فتوسع رقعة الدولة أدى إلى اختلاط الأمم والثقافات وكثرة الدخلاء على الإسلام من غير وعي، إضافة إلى ما قام به الحكام الأمويون من اضطهاد لأنصار الحق وتحوير للدين بهدف شرعنة حكمهم، وتحويل الإسلام من دين هداية إلى دين سياسة وحكم... مما جعل مهمة الأئمة عليهم السلام ترتكز على إزالة الشبهات وتوضيح أحكام الدين، وقد قام الإمام السجاد (عليه السلام) بدوره في هذا الإطار رغم ما كان مفروضا عليه من حصار، أما الإمام الباقر فقد كان له من ضعف الدولة الأموية في عصره، ما مكنه من تركيز جهوده على بناء هوية المجتمع الإسلامي التي كاد ذلك المجتمع يفقدها وتنطمس معالمها الأساسية، وكانت مهمة الإمام الباقر أن ينقذ الدين عبر توظيف علومه الإلهية، التي ورثها عن آبائه عن النبي عن الله عز وجل، وذلك لهدف هداية الأمة وترسيخ جذور الإيمان في قلوب المسلمين. وقد قال الإمام الباقر عليه السلام مخاطبا جابر بن عبد الله الأنصاري: "والله يا جابر لقد أعطاني الله علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة." وقال الشيخ المفيد قدس سره: "وكان الباقر أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام من بين إخوته خليفة أبيه علي بن الحسين، ووصيه والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد، وكان أنبههم ذكرا وأجلهم في العامة والخاصة وأعظمهم قدرا، ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر عليه السلام، وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار بالفضل به علما لأهله تضرب به الأمثال، وتسير بوصفه الآثار والأشعار، وفيه يقول مالك بن أعين الجهني: إذا طلب الناس علم القرآ ن كانت قريشٌ عليه عيالا وإن قيل: أين ابن بنت النبـ ـي؟ نلت بذاك فروعا طوالا نجومٌ تهلل للمدلجين جبالٌ تورث علما جبالا (1) تفسير الميزان: ج ٣، ص ١٦٨. (2) بحار الأنوار: ج ٢٦، ص ١٦. (3) المصدر نفسه: ج46، ص 296. (4) المصدر نفسه. (5) الإرشاد: ج2، ص157.