الذبيحان من آل عقيل (عليه السلام)
نجمتان شعتا في سماء كربلاء.. فراشتان ترفرفان وتحلقان حول نور سيد الشهداء (عليه السلام)، بقيا وديعة عنده بعد شهادة أبيهما مسلم بن عقيل (عليه السلام)، هما محمد وإبراهيم (عليهما السلام). تحملا مع سائر أطفال الركب الحسيني الجوع، والعطش، والخوف، وانتظار القمر ليطل عليهم، فعندما ودعهم قمر بني هاشم (عليه السلام) ليجلب الماء من الفرات، رافقته نظراتهم الأخيرة، القربة على كتفه، والراية الخفاقة ترفرف فوق رأسه الشامخ، وهم يتأملون تلك القربة التي صارت كل آمالهم، لكن حامل القربة لم يعد، ولم يشربوا الماء، وفي ذلك الهجير كانت لهم مواقف من الآلام والحسرات، فعيونهم رأت وداع سيد الشهداء (عليه السلام) للعائلة والتفافها حوله، وعندما توجه صوب المعركة، علت أصوات الأرامل واليتامى بالنياح، إذ دق ناقوس الخطر، والموت قد فتح عيونه، سمعوا صهيل ذي الجناح وهو ينادي: الظليمة لأمة قتلت ابن بنت نبيها(1)، فاهتزت الأرض من تحت أقدامهم العارية، ترتجف من هول المصاب، ففروا إلى البيداء، فمنهم من سحقته الخيل، ومنهم من مات عطشا، والآخر مات ذعرا، وفر ولدا مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى أبعد ما يستطيعان مثلما أوصت أمهما، يمسكان بيد بعضهما. انطلقا لا يعلمان الى أين، وهما يرتجفان خوفا، والأحزان كالإعصار في قلبيهما. تزلزلت الأرض من تحت أقدامهما، فبعد أن كانا في المدينة، في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، بيوت العز والكرامة، صارا مشردين مطاردين في البيداء، فما أقسى الدنيا على مثليهما، تفتح فاها وتغرز أنيابها، وتنهش صغيرين يتيمين مرعوبين؟ يعتصر قلبيهما الألم لفراق الأحبة، ولهول ما رأت أعينهما في كربلاء، نار ودخان، وأجساد مضمخة بالدماء، وفوق ذلك كله أودعا السجن كأنهما من الزنج أو الديلم، فبأي ذنب يسجنان؟ وأي خطر يشكلان على عرش النمرود؟ يقضيان الليل بالصلاة ويصومان النهار، عام كامل من الجوع والألم، والسجن والتضييق، يرفعان أكفهما للملك الديان أن يحكم بينهما وبين قوم جحدوا عترة المختار، ولم تفلح كل المحاولات من أجل إطلاق سراحهما، أو بيعهما، أو إرسالهما إلى الطاغوت لينظر في أمرهما، فقد كان الطمع، والجشع، والجرأة على الله تعالى ورسوله قد أعمت البصيرة والأبصار، فتعانقا في الوداع الأخير. مقلة الأرض أجرت لهذا الموقف مدامعها، وأجابتها محاجر السماء بالدم فخضبت أهدابها. فرق اللعين بين رأسيهما وجسديهما النحيلين، فتعانقا في نهر الفرات، وتناثرت دماؤهما الطاهرة على القصب والبردي، والنخيل كانت شاهدة، تروي حكاية البراءة المذبوحة.