رياض الزهراء العدد 219 فسيروا في الأرض
مواقف مقدسةٌ مع الكعبة المشرفة
لم تكن فكرة الكتابة عن رحلة العمرة التي تعاود دورتها السنوية الرابعة علي في مثل هذه الأيام المباركة غائبة عن بالي، بل كانت مؤجلة فقط، فكيف لي ألا أكتب عن ذلك الحدث المفصلي بين جزئي حياتي السابقة، واللاحقة. هناك في الديار المقدسة تلتزمين بالخطوات المتسلسلة، وتؤدين مناسك حبك وعبادتك لخالقك، ورغبتك في ترديد العبارة الملكوتية: (لبيك اللهم، لبيك). تقفين في الميقات على جفرة الماء الزلال، فيختفي ثقل السفر الذي أخذ مأخذا من حيويتك بتلك الساعات؛ ليحل محله نشاط ينبض بداخلك، وشوق يتسابق مع أنفاسك لزيارة من جئت لأجلها، فتصلين إلى الكعبة المشرفة، وتتحرك أقدامك، وتتماهى خطواتك مع الجموع، فلا تشعرين بهم، إذ تنعدم الجاذبية الأرضية؛ ليحل محلها جاذبية الكعبة المشرفة، فتطوفين حولها، يأسرك سحرها، والحجر الأسود يثلج فؤادك المستعر. وعلى الرغم من كل تلك المنائر والأضواء المنتشرة على عتمة الليل وأسحاره، لكني شعرت أن الضياء يشع من قلبي، وعلى الرغم من هجير الصيف، كان فيء الرحمة المنعش يحتويني، وعلى الرغم من الزحام الذي طالما هربت منه في الأماكن العامة، إلا أني كنت أشعر أني لوحدي في هذه البقعة المقدسة، فلم أشعر بضيق المكان على الرغم من حشود البشر من كل جنس ولون، ولم أدر هل أن قدمي من تحملاني، أم قلبي السعيد وروحي المتلهفة من تولى ذلك؟ لا أدري لم تكون الخواطر الحزينة أكثر قداسة؟ فالحزن الذي اعتراني ليس حزنا بالمعنى السلبي، بل موزعا بين عدة مشاعر: بين الرغبة في البقاء، ويبن توقع العودة مرة ثانية، وبين فرح يخالطه حزن لعدم زيارة بيت الله الحرام في وقت أبكر، وربما هو حزن لشعورك بالتقصير، ولأن ليس جميع من تحبينهم معك. لحظات الطواف حول الكعبة المشرفة، ثم صلاة إبراهيم (عليه السلام)، وماء زمزم الذي ترتوين منه أزاهير الألق وطعم الشفاء الذي لا يوصف، في بيت الله الحرام راحة في كل الزوايا، يغمرك الشعور بقرب الاستجابة. لا أدري كيف أعبر عن تلك اللحظات الرحمانية، شعور غامر بالراحة والطمأنينة يعجز عن تقديمها الأطباء بعقاقيرهم المهدئة، فلا تفقهها معادلات الطب الحديث. خواطر مقدسة كثيرة، مليئة بالسعادة، فهل من عودة إلى الكعبة المشرفة؟