عُرسُ الشَّهَادَةِ أَجمَلُ فِي بِلَادِي

هناء باقر الخفاجي/ ذي قار
عدد المشاهدات : 222

عندما وصل بموكب مهيب إلى بيته، كان بانتظاره أعمامه وجيرانه وأصدقاؤه، أنزلوه من السيارة حامليه على أكتافهم، قبّله والده في جبينه، ونثرت والدته الحلوى فوقه، والنسوة تزغرد وتنثر الورود، أدخلوه إلى البيت بزفة عرس ليلقي بالنظرة الأخيرة على المكان الذي وُلد وترعرع وعاش فيه سنيّه العشرين، اجتمع حوله أهله ومحبّوه، هذا يقبّله، وهذا يحتضنه، فكان في الوقت نفسه اللقاء والوداع الأخير. والده وعلى كبر سنّه مسح دموعه، وقبّل العلم الموضوع فوقه، وكلّمه في نعشه: "نم قرير العين يا ولدي.. سنلتحق أنا وإخوتك بالقتال، ولن نترك مكانك خالياً". وعندما شيّعوه خرجت خلفه ودموعها تجري، نادته بـ "حمودي حبيبي.. يا قرة عيني.. نفّذت وصيتك واشتريت لك أثاثاً جميلاً لغرفة عرسك، ملأتها وروداً وشموعاً وحنّاء، وجهزت لك بدلة زفافك كما أوصيتني.. فكم أنا فرحة بيوم عرسك الذي طالما انتظرته.. ولكن.. ألا تدري بقلب والدتك لا يحتمل فراقك.. فكيف أودّعك في يوم زفافك؟! ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت: سلام الله عليك يا مولاتي زينب، يا جبل الصبر، امنحيني جزءاً من شجاعتك لأقول كما قلتي: "اللهم تقبل منّا هذا القليل من القربان" وأنا أقدّم ولدي قربانا للشهادة، كما قدّمت أخوتك وأولادك، بهذه الكلمات شيّعت أم محمد ولدها الشهيد. فهي لم تكن أول والدة شهيد ولا أخرهنّ، ففي كلّ يوم تنتظر الأمهات قدوم (بشرٍ)! لينقل خبر استشهاد أولادهنّ كما نقله من قبل للسيّدة أم البنين (عليها السلام) باستشهاد أولادها الأربعة. تلبية نداء المرجعية أمّ الشهيدين النقيب طارق وأسعد ذكرت أنه: التحق ولدها الأصغر أسعد بالحشد الشعبي ملبياً نداء المرجعية الرشيدة بالدفاع عن الوطن من المعتدين والطامعين في أرضنا، وقد استُشهد في الأنبار تاركاً زوجة وولدين، وبعد عشرة أيام التحق به أخوه النقيب طارق وهو يقاتل الإرهاب في ديالى، وقد ترك ثلاثة أطفال أيضاً، وعلى الرغم من عظم مصابها إلا أنها تحمل قوة وصبراً كبيرين حيث تحثّ الأمهات الثكالى على أن يقتدينَ بالسيّدة أم البنين (عليها السلام) التي ضحّت بأولادها من أجل نصرة الدين والعقيدة، مؤكدة: (إنه مهما بلغ حبّنا وتعلقنا بأولادنا فإنّ عقيدتنا لابدّ من أن تكون أغلى وأثمن حتى من أولادنا). أمّا زوجة الشهيد علي الذي استُشهد في جرف النصر فقالت: كان زوجي يعمل في محل لبيع المواد الغذائية، وعندما سمع نداء المرجعية هبّ ملبياً النداء. في البداية عارضته ولم أقبل أن يتركني مع طفلة عمرها عام واحد، لكنه أصرّ على الذهاب، وقال لي: ألا تعرفين أنّ المرجعية أمرت بالجهاد للدفاع عن مقدساتنا وعقيدتنا وأرضنا وعرضنا، وسوف لن أعود إلّا بإحدى الحسنين، إمّا النصر، وإمّا الشهادة. وأضافت: ودعني مبتسماً، ثم قال: سأنتظرك وصغيرتي تبارك في الجنة، فتمني لي الشهادة التي لا ينالها إلا ذو حظّ عظيم. أم منتظر قالت: أنا فخورة بزوجي وولدي منتظر الذي التحق بأبيه وهو يقاتل في تكريت بعد أن تحسّن جرحه، حيث أُصيب برصاصة في كتفه في إحدى المعارك، وأشارت إلى أنها تشجع أولادها على القتال وعلى كلّ المقاتلين أن يعودوا إلى الجهاد بعد أن تبرأ جراحهم؛ لأنه واجب مقدس لا يمكن التنصل عنه أو التهاون فيه وليس هناك أعظم من الجهاد في سبيل الله والوطن. سبايكر ودم المظلوم الست شيماء/ مدرسة لغة عربية: فقدت اثنين من إخوتها في معسكر (سبايكر)، علي وحسين شابان في عمر الزهور، قُتلا مع آلاف الشباب بدم بارد، وهم في دورة تدريبية في المعسكر، حيث اقتادتهم عصابات مسلحة إلى جهة مجهولة، وقاموا بقتلهم مع رفاقهم الطلبة العزّل من السلاح. وأشارت إلى أنّ أهل الضحايا لم يتسلّموا جثثهم لحد كتابة هذه السطور، معزّية نفسها بمصاب السيّدة زينب (عليها السلام) التي وقفت في معركة الطفّ وهي تشاهد إخوتها وأولادها وأصحابهم قتلى على رمضاء كربلاء، فكانت تقف وحيدة من دون أخٍ أو ولد في فاجعة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ومع ذلك لم تفقد صبرها وشجاعتها وعزمها في مواصلة ثورة أخيها الحسين (عليه السلام)، حيث أثبتت للعالم أنّ دم المظلوم ينتصر دائماً على سيف الظالم. معركة الطفّ من جديد الحاجة أم حسن: تروي قصة نزوحهم من المناطق الساخنة مع العديد من العوائل إلى المناطق الوسطى والجنوبية بحثاً عن مكان آمن يؤويهم بعد أن عاث الإرهابيون في أرضهم فساداً، ودمر كلّ شيء، وأضافت أم حسن أنها لم ترَ في عمرها الذي تجاوز السبعين مجازر وحشية، وقسوة قلوب، ودمار للحرث والنسل كما شاهدته في هذا الزمن من (الدواعش) الإرهابيين، حيث تيقنت أنّ معركة ألطف قامت من جديد، وأن أولاد آكلة الأكباد عادوا يقطعون الرؤوس، ويحرقون البيوت، ويقتلون الأطفال، ويسبون النساء، ولم يراعوا كبيراً ولا صغيراً، وما هؤلاء إلّا امتداد لأسلافهم بني أمية الحاقدين على الدين الإسلامي المحمديّ. كرم الضيافة آمال محمود، طالبة في كلية التربية، هربت مع والدتها وإخوتها بعد أن قُتل والدهم في بعقوبة، وتركوا قريتهم متوجهين إلى أقاربهم في الناصرية، تحدثت قائلة: على الرغم من أننا تركنا بيوتنا ودراستنا وعملنا وكلّ شي إلّا أنّ استقبال الناس لنا وضيافتهم للعوائل النازحة خفّفت من معاناتنا كثيراً، حتى إننا نشعر بأمان بينهم، وروت قصة كرم الضيافة لأحد الأشخاص الذي قام بإخراج المؤجّر من بيته، وإعطائه إلى إحدى العوائل النازحة من دون مقابل. قافلة الشهداء في بلادي لا تتوقف حتى تطهير آخر شبر من أرضنا من دنس الزمر الإرهابية، ففيها تتجسد مقولة (كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء)، فكم تضرّجت أرضها بدماء الشهداء، وكم من عباس قُطعت كفّاه وهو يذود عنها، وكم من علي وقاسم زُفوا بثياب عرس الشهادة، وكم من رضيع عطشان سُقي بدماء وريده، وكم من أمّ البنين (عليها السلام) قدمت ثمرة فؤادها قرباناً واحداً تلو الآخر، وكم من زينب هدّت بصبرها الجبال وبقيت شامخة، فلله درّك من بلاد تلد النجباء.