رياض الزهراء العدد 220 أنوار قرآنية
مجابهة الظالمين: مبدأ إلهي تجلى في الطف
القرآن الكريم بوصفه الكتاب الإلهي الذي أنزله الله تعالى هدى للناس، لا يكتفي بالتوجيه الفردي إلى الفضيلة، بل يرسم مواقف جماعية ومسارات حضارية تنبذ الظلم، وتدعو إلى مواجهته بكل الوسائل المشروعة، ومن أبرز هذه المسارات، ما نراه في موقف الإمام الحسين (عليه السلام) الذي ترجم القيم القرآنية إلى حركة واقعية خالدة في كربلاء. الظلم في المفهوم القرآني ليس مجرد انحراف فردي أو سلوك خاطئ، بل هو حالة فساد اجتماعي تنخر كيان الأمة، ولهذا دعا القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام) إلى مواجهته من دون تردد عن طريق عدة توجيهات: 1ـ النهي عن الركون إلى الظالمين: قال الله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) (هود:١١٣)، فهذه الآية تمثل موقفا صريحا ضد مهادنة الظالم، فحتى الميل البسيط نحوه يعد خيانة للموقف الإلهي، ويؤدي إلى الهلاك، والركون هنا لا يشمل فقط التأييد العلني، بل أيضا الصمت أو التغاضي عن جرائمه. 2ـ نصرة المستضعفين: قال الله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هٰذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) (النساء:٧٥)، فالآية تثير تساؤلا أخلاقيا شديد اللهجة، مفاده: ما الذي يمنعكم من الدفاع عن المستضعفين؟ لأن الجهاد ضد الظلم ليس مجرد خيار، بل هو واجب إيماني يختبر به صدق الانتماء إلى الإسلام. 3ـ إقامة العدل واجب جماعي: قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قومٍ علىٰ ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوىٰ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)(المائدة:٨)، العدل مطلب دائم للمؤمنين، وتحقيق العدالة في زمن تحكم الظالمين بمصائر الأمم يعني حالة مستمرة من المقاومة والمواقف، وليس مجرد ردود أفعال عابرة. ترجم الإمام الحسين (عليه السلام) المبادئ القرآنية في ساحة الطف، فقد عاش (عليه السلام) في زمن انتكست فيه القيم، وسيطر فيه الطغيان المتمثل بيزيد بن معاوية –لعنه الله- فكانت نهضته تجسيدا لنداء القرآن الكريم في مقاومة الظالمين، وقد عبر (عليه السلام) عن رسالته، قائلا: "إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..."(١)، فقد جعل الإمام الحسين (عليه السلام) الإصلاح ومحاربة المنكرات أساس خروجه، لا لمطامع دنيوية أو مصالح خاصة، فكربلاء ميدان تطبيق القرآن الكريم والسنة المطهرة بكل مفاهيمها وتعاليمها، فلم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه جيشا من الناس، بل كان يواجه ثقافة ملوثة بالخضوع للباطل، فكانت دماؤه الزكية ودماء أهل بيته وأصحابه (عليهم السلام) عزا للأمة من ذل الخنوع، وكانت شهادتهم في صورتها الأليمة هي المنبه الذي أيقظ ضمير الأمة النائمة والخاضعة للظلم والباطل، فكانت شهادته (عليه السلام) أسمى صور مقاومة الظل، وقد قال الله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ (آل عمران:١٦٩) فالشهداء وعلى رأسهم سيد الشهداء (عليه السلام) أحياء عند الله، فهم يحييون بشهادتهم الأمة الذليلة الخاضعة للظالم، وينفخون بها روح الحياة عن طريق مجابهة الظالمين والعيش أحرارا لا عبيدا للطغاة والشهوات. ما أحوجنا اليوم وفي كل زمان إلى فهم هذه الرسالة العميقة: أن مقاومة الظلم ليست خيارا، بل فرضا، والإمام الحسين (عليه السلام) مصباح الهداية والوعي والوقوف بوجه الفساد السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، وغيره، فضلا عن كونه عبرة كل مؤمن ومؤمنة، وليس بالضرورة أن تكون المواجهة مع الظالمين بالسيف، بل قد تكون المواجهة بالكلمة، أو بالموقف، أو بالمقاطعة، ففي كل زمان يوجد أمثال ليزيد، فهل سنكون من أنصار الإمام الحسين (عليه السلام)، أم نكون من المتفرجين على الظلم بصمت؟! إذا الوقوف بوجه الظالمين هو خط هداية إلهي، أكده القرآن الكريم والعترة الطاهرة (عليهم السلام) عبر سيرتهم الجهادية الإصلاحية، فنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ليست حادثة تاريخية، بل منارة مستمرة لكل الأحرار في كل زمان ومكان، وكل من أراد أن يكون على درب القرآن الكريم والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، فلا مفر من أن يقف بإيمان وشجاعة في وجه الظالم، صغيرا كان أو كبيرا. ............... (1) بحار الأنوار: ج٤٤، ص٣٢٩.