رحلة السبي: بين نار الألم والصبر الجميل

سوسن بدّاح خياميّ/ لبنان
عدد المشاهدات : 4

بعد واقعة كربلاء التي انتهت باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) والثلة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه (عليهم السلام) في عام (61هـ)، لم تطو صفحة المصاب، بل بدأت مرحلة جديدة من الألم والمعاناة، تمثلت في رحلة السبي المضنية التي خاضها نساء أهل البيت (عليهم السلام) والأطفال، ولاقوا ما لاقوا مما لا يستطيع أن يتحمله بشر، إذ فرض عليهم الانتقال من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام في ظروف تفتقر إلى أبسط مقومات الإنسانية على يد جلاوزة يزيد –لعنه الله- وأمام أعينهم الرؤوس الشريفة محمولة فوق الرماح. المشقة الجسدية التي واجهها السبايا لا توصف فداحتها، فالسير حفاةٍ لمسافات طويلة تحت حرارة الشمس، مع شح الماء وندرة الطعام، سبب إنهاكا بدنيا شديدا للنساء والأطفال، وتشير الأبحاث الطبية الحديثة إلى أن ظروف كهذه قد تؤدي إلى جفاف حاد، واضطراب في نسبة الأملاح، ونوبات من الإعياء التي تؤثر في الوظائف الحيوية الأساسية للجسم، بخاصة لدى الفئات الضعيفة، كالأطفال والمسنين(1)، وتروي المصادر التاريخية مشاهد تصف حال السبايا بدقة: (وأخذوا أسارى يساقون كما يساق سبايا الترك والروم، حتى أدخلوا على عبيد الله بن زياد –لعنه الله- وكانت السيدة زينب (عليها السلام) في حالٍ لا توصف من التعب والجراح، والقيود الحديدية تكبل النساء حتى تسببت لهن في جروح ونزيف دون رعاية أو رحمة)(2). أما الأثر النفسي، فقد كان الأعمق والأبقى، فالأطفال الذين رأوا مشاهد القتل الفجيعة، وحرق الخيام المروع، وتعرضوا للسلب والضرب، وفقدوا آباءهم، كل ذلك يؤدي إلى الصدمة النفسية التي تعرف اليوم باسم (اضطراب ما بعد الصدمة المعقد) الذي يترك آثاره في السلوك والوجدان لسنوات، بل لعقود من الزمان، ومن أعراضه: نوبات الهلع، الكوابيس الليلية، انعدام الشعور بالأمان، العزلة الاجتماعية(3)، كحال مولاتنا رقية بنت الحسين (عليهما السلام)، التي استشهدت في خرابة الشام بعد رؤيتها لكل تلك المشاهد الصادمة، بخاصة أنها رأت رأس والدها أمامها، فتمثل السيدة رقية (عليها السلام) أبرز مصداق لهتك حرمات آل الرسول (صلوات الله عليه) وتعريضهم لشتى أنواع الظلم والعنف والاضطهاد والصدمات النفسية الناتجة عن الفقد، والترويع، والضرب، والسبي، والشتم، وغيرها من المظالم التي جرت عليهم. وعلى الرغم من جميع المصائب التي صبت على آل الرسول (صلوات الله عليهم) في يوم عاشوراء وما بعدها، إلا أن السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) وقفت شامخة، تجسد أسمى معاني الثبات والصبر الجميل، وخطابها الذي يتردد صداه مدى الزمان حين قالت: "ما رأيت إلا جميلا"(4)، شكل علامة خالدة على ثبات هذه السيدة في ذات الله تعالى؛ لتكون قدوة للأجيال في المقاومة والصمود على الإيمان والحق. ........................... (1) مايو كلينك، (أعراض الجفاف ومضاعفاته): 2023م، الموقع الرسمي: www.mayoclinic.org. (2) اللهوف في قتلى الطفوف: ص130. (3) الجمعية الأمريكية للطب النفسي، (DSM-5): الطبعة الخامسة، 2022م، ترجمة مكتبة جرير. (4) بحار الأنوار: ج٤٥، ص١١٦.