رياض الزهراء العدد 220 ملف عاشوراء
قمر لا يأفل
وقف عند النهر يتأمل، ينثر أنفاسه على الضفاف الذابلة: أيها النهر، احمل لهيب أحزاني إلى قلوبٍ لا تزال تنزف ألما، خجل أنت من أنين العطاشى، يجري ماؤك ولم يروهم. إن ترابك مقدس، وساكن شطك ناجٍ من قبضة الموت، وسرك لا يعرفه سوى الله تعالى، فأنت من مظاهر عظمته وكلماته التامات، أولئك الذين أقسموا أن يبقوا أمناءه حتى تحين لحظة التجلي. في قلب أمواهك طيف لذلك الفارس الذي رحل ولم يرحل، ما تزال هالة بهائه تترقرق على وجه أمواجك الخجولة، هنا وقف شامخا، شاهقا كالثريا، عزيزا بكبرياء الأتقياء في وجه الطغيان، مقداما إلى حد البسالة، باسلا إلى حد الرهبة، يجمع بين التقى والحكمة، يحمل في صدره حمية عن يقين ورثه عن أبيه، يؤمن أن الحق والحقيقة أثمن من أن تباع وتشترى. حين دلع جيش الضلال لسان حرب لم يشهد التاريخ مثلها، بقيادة الطاغية، انطلق ببسالة، عازما على خوض المنايا دون الطاهرين، هشم السيوف، حصد الرؤوس، أسقط الفرسان، وصولا إليك على الرغم من شدة وطأة الهيجاء. عندها وقف عندك بعظمته يتفكر، محدقا بعينيه فيك، ثم همس: "يا نفس من بعد الحسين هوني.."(1)، لكن صوت الظمأ والظليمة كان أقوى.. تسللت الأصوات إلى روحه، فأحس بتجلي حقيقة الوجود الحقيقي في ذاته، حمل قربته وسيفه، وقلبه ممتلئ بيقينٍ صداه يهز كيانه، لا يدرك معناه إلا هو.. خاض المعركة الأخيرة بشجاعةٍ لم يعهدها بشر، صوت صولاته امتداد لصولات حيدر (عليه السلام)، انتصر انتصار عارف بيقين الحياة على الفناء.. لم يبحث عن الخلود، لكنه صنعه حين مد كفيه إلى موجك، فسال الماء ولم يرتو، وأهرقت القربة ولم يصل، وانكسر القنديل وبقي وهاجا ولم يخب.. الجراح ناطقة: كيف سقط وهو الذي لم ينحن؟ كيف سلبت يمين كانت هي الراية التي ترفرف فوق ألوية المجد؟ كيف غدرت به أيدٍ لم تعرف معنى الوفاء؟ ها هي كلماته الأخيرة استحالت عهدا أبديا: "والله إن قطعتموا يميني..."(2). ليالي الوجع لم تنته أيها النهر، صدى قرقعة السيوف لا يزال ينادي من بعيد، يحكي قصة عينٍ فقدت النور لترى الأمة طريق الهداية، وكفين سقطتا كي تبقى راية الحق مرفوعة، وقلبٍ غفا نبضه وما يزال يخفق بحب، لم يعرف الموت حدودا لحياته. قمر من بني هاشم تهتف باسمه العصور، تنحني أمام وفائه الأزمنة، نداؤه يتردد بين الضفاف صدى لمروءةٍ لم تعهدها الأزمنة، أنشودة للخلود تترك أثرا في امتداد الدهور. غادر العباس (عليه السلام) وما غادر، هو نهر في العطش، وضوء في الظلام، لن تمحوه السنون، ولن يخبو نجمه من مدارات الخلود. وبقيت أرنو للفرات ومقلتي كالغيم غيث يستثير حواسي أهوي وتنهشني الشجون وشطه يتلو على الوجدان فيض مآسي قمر هنا بلغ النمير وما ارتوى عين هنا سالت برمحٍ قاسي وهنا الكفوف على الضفاف تقطعت وهنا أصيب بطبرةٍ في الراس وهنا انحنى ظهر الحسين هنا بكى قطع الطغاة بجورهم أغراسي وبراعمي جفت وهشمها الظما فانهض لتروي صبرها عباسي ............................. (1) مقتل الحسين (عليه السلام): ص179. (2) بحار الأنوار: ج45، ص40.