سلام على إبراهيم

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 7

لم تكن المدينة مقفرة يوما كما كانت في ذلك اليوم، فقد ألقى عليها غياب الإمام مسحة حزنٍ عميق! وكيف لا تحزن البيوت والآفاق والأحداق، وسيد آل محمد (صلوات الله عليهم) قد غدا غريبا في بلاد فارس، يحيط به أعداؤه والمناوئون والكائدون له من بني العباس إحاطة السوار بالمعصم، يظهرون له الود والمحبة وهم كالأفاعي الملساء في أنيابها يرقد السم... ينظر إبراهيم بن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) حوله بحرقة صباه الذي يتشوق لرؤية عمه، ويسأل ويستقصي كل يومٍ عن أحواله، ويشارك أباه وأعمامه وعماته، أولاد الإمام الكاظم (عليه السلام)، القلق والترقب وانتظار الغد المشؤوم.. مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) ضاقت رحابها في غيابه، وأهله وأصحابه وإخوته وأحبابه قد برح بهم الانتظار، فخرجوا للقائه والالتحاق به، وقيل إنهم خرجوا بعد استشهاده، فهرع إبراهيم ليكون في ركاب الملتحقين.. ربما يكون المسير طويلا.. ربما تكون الرحلة شاقة، والمخاطر جمة.. لكن لا يهم، ففي سبيل لقائه تهون المصاعب، ويحلو المر والعلقم، فطلعته البهية ستكون هي المغنم! إبراهيم فتى ملء أعطافه الشباب والفتوة والحماس، والاشتياق للقاء سيد الأحباب، لكن دون ذلك صعاب وصعاب، وسيوف وحراب، وغيم وضباب، ثم أفول وغياب! بلى، فالإمام الرضا (عليه السلام) نال مرتبة الشهادة قبل أن يكون الوصول، وأولاد الإمام الكاظم (عليه السلام) وأشراف بني هاشم قد قطعوا الفيافي والقفار؛ ليتلقوا ذاك الخبر الأليم، ثم ليشتبكوا مع العصبة الضالة، فيقعوا بين شهيد وجريح، ويكون نصيب الفتى إبراهيم جرحا في عينه، يفقده بصره ويزيده بصيرة واستبصارا، فبصره اليوم حديد! كل الدنيا لا تساوي عند الله سبحانه جناح بعوضة، وإلا لما أعطى الكافر منها شيئا.. كذا كانت عقيدة إبراهيم الذي جعل من فقده البصر حاسة سادسة رفعته إلى مصاف الأولياء، لا لأن عينه انطفأت في مرضاة الله، وفي سبيل لقاء ولي الله، والسعي للتبليغ عن أولياء الله تعالى، بل لأن نور الإمامة أوقد له درب الكرامة، فاتبع هداه واتخذه سبيلا للسلامة، فجعل همه في الدنيا أن يحدث الناس بعلوم آل محمد (صلوات الله عليهم)، لا يبالي بما يعترضه من عقبات، وقد علم أن أقصى ما يمكن أن يتعرض له هو الشهادة، وذاك منتهى أمله، إذ قال نبي الرحمة والهدى (صلى الله عليه وآله): "فوق كل ذي بر بر، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فليس فوقه بر"(1). نور الإمامة يسطع من جبين الأولياء، ونور الرضا (عليه السلام) قد سطع في جبين ولده الجواد (عليه السلام)، وها هي أرض العراق تصبح قبلة العاشقين لآل محمد (صلوات الله عليهم) بعدما سكنتها الأجساد الطاهرة للعترة الطاهرة، الكاظم ثم الجواد (عليهما السلام)، وقبلهما كانت كربلاء الحسين (عليه السلام).. بلى، وإن كربلاء تنادي روحه، وتناجيه، وتستدعيه، أفلا يلبي النداء؟ شد إبراهيم الرحال إلى جوار جده، يستعين بقربه منه على مواصلة البر بعهده.. يحدث إبراهيم بن محمد العابد ويحدث، ويتخذ له من كربلاء موطنا، فقد علم أن جوار الحسين (عليه السلام) هو المكان الأبلغ للتبليغ بحق المصطفى وآله (صلوات الله عليهم) في زمن الفتن والأباطيل، فهنا تتضوع رياحين النبوة ويعبق مسك الشهادة، وهنا الزيارة التي تحيي قلوب المؤمنين الوالهة وتبث فيها السعادة، وهنا الحسين (عليه السلام)، وإبراهيم هو أول علوي حسيني موسوي يسكن جوار الحسين (عليه السلام).. ويقف إبراهيم في ذلك اليوم المشهود أمام ضريح جده، يقف بكل ما أوتي من عزمٍ، ويقينٍ، وإقدام.. هو يعلم أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فكيف بسيد الشهداء (عليه السلام)؟ ولسان قلبه يقول: "أشهد أنك تشهد مقامي، وتسمع كلامي، وترد سلامي، وأنت حي عند ربك مرزوق". ويرفع إبراهيم صوته بالسلام على سيد الشهداء (عليه السلام): "السلام عليك يا أبه"! ينقل من شهد الحادثة أن صوتا تعالى من داخل الضريح المقدس يقول: "وعليك السلام يا ولدي"(2).. هاج القوم وماجوا، وارتفعت الأصوات بالصيحات والصلوات والقلوب بالمناجاة، والعيون بالدمعات الساكبات، هو ذا إبراهيم يجاب سلامه! إنه المصداق على أن الإمام يرد السلام حقا.. بخٍ بخٍ لك يا إبراهيم، فلقد غدوت مجابا من سبط الرسول وعزيز البتول (صلوات الله عليهم)، وغدوت لواء من ألوية الحق يعلو فوق القمم، ويشمخ بشمم، حتى إذا وافتك المنية وأنت بجوار جدك، كنت بجواره في لحدك، وغدا قبرك مزارا لكل زائر، واقترن اسمك باسمه عند ذكر المآثر، فهنيئا لك ما بذلت وقدمت في سبيل كلمة الحق الثائر، وسلام عليك يوم ولدت، ويوم غدوت أبصر ناظر، ويوم صرت مجابا بالسلام من سيد الشهداء، وغدا قبرك معبرا للوصول إلى جنة كربلاء.. 1_الكافي:ج5,ص53