رياض الزهراء العدد 220 ملف عاشوراء
البصيرة في عاشوراء: رؤية تتجاوز الزمن
حين نتأمل واقعة عاشوراء بعمق، ندرك أنها لم تكن مجرد معركة بالسيوف، بل كانت مواجهة بين البصيرة والعمى، بين من امتلكوا الإيمان واتخذوا القرار الصائب، وبين من انساقوا وراء الأهواء وانخدعوا بالدعاية المزيفة، هذه البصيرة التي تجلت في موقف أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) في مواجهة الطغيان بالكلمة والاستقامة والجهاد، تجعلنا نتساءل: كيف يمكن أنْ نستلهم من هذه المدرسة في حياتنا اليوم؟ هل نحن قادرون على أنْ نكون حسينيين في وعينا، أم أننا نعيش في عالم يقودنا فيه الضجيج بعيدا عن الحقيقة؟ في واقعنا اليوم، تغرق المجتمعات في سيل من المعلومات المتدفقة عبر وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ يختلط فيها الحق بالباطل، وتصنع الأكاذيب بحرفية تجعلها تشتبه بالحقيقة، وهنا يأتي دور البصيرة التي تعلمنا إياها عاشوراء في أنْ لا نكون أدوات تحركها العناوين البراقة، ولا الأصوات المرتفعة، بل نبحث عن جوهر الأشياء قبل أنْ نحكم على ظاهرها، فالذين نصروا الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا مدركين أن عليهم أنْ يكونوا فداء للحق، حتى لو تخاذل الناس من حولهم، فهذه القدرة على قراءة الأحداث قبل وقوعها هي ما نحتاجه في حياتنا اليومية، سواء في قراراتنا الشخصية أو في مواقفنا تجاه القضايا الكبرى، فكم من شخص انساق وراء وعود زائفة وخسر كل شيء؛ لأنه لم يمتلك البصيرة الكافية؟ وكم من مجتمع انهار لأنه لم يدرك المخاطر التي تحيط به إلا بعد فوات الأوان؟ إن امتلاك البصيرة يعني ألا نسمح للعاطفة وحدها أنْ تقودنا، بل ندمجها بالعقل، ولا نكتفي بالسماع، بل نسأل، ولا ننظر إلى المظاهر فقط، بل إلى ما وراءها، فهذه المهارة ليست ترفا، بل ضرورة في عالم تتشكل فيه الحقائق بناء على من يمتلك الصوت الأعلى مع الحقيقة، وعاشوراء تعلمنا أن الصمت عن الظلم يعني القبول به، وأن الحياد في المعركة بين الحق والباطل هو انحياز ضمني إلى الطغيان، فكيف يمكن لإنسان يحمل فكر الإمام الحسين (عليه السلام) أنْ يقف متفرجا على الفساد؟ وكيف يمكن لمن يقرأ خطبة العقيلة زينب (عليها السلام) في مجلس يزيد أنْ يقبل بالذل والهوان في حياته اليومية؟ إن تفعيل قيم عاشوراء في حياتنا لا يعني أنْ نحزن في كل عام ونستذكر المأساة فحسب، بل أنْ نجعل منها منهاجا دائما يقود خطواتنا؛ لكي نكون أحرارا في فكرنا، ولا نسمح لأحد أنْ يملي علينا أفكاره من دون أنْ نبحث ونفكر، وألا نخشى من قول الحق حتى لو كان الثمن باهظا، مثلما فعل مسلم بن عقيل (عليه السلام) حين واجه غدر بني أمية، ومثلما فعل الحر بن يزيد الرياحي حين قرر أنْ ينصر الحق، وينحاز إليه على الرغم من يقينه أن ذلك يعني الموت. هؤلاء لم يكونوا شخصيات خيالية، بل بشرا امتلكوا الوعي الكافي والإيمان ليدركوا أن الحياة بلا موقف لا معنى لها، فهل نمتلك نحن اليوم الوعي واليقين نفسه؟ أم أننا نبحث عن المناطق الرمادية التي تجعلنا نعيش بسلام مزيف؟ إن الاستثمار الحقيقي للبصيرة التي علمتنا إياها عاشوراء، يبدأ من إدراك أن كل لحظة في حياتنا هي ساحة اختبار، وكل كلمة نقولها قد تكون موقفا، وكل قرار نتخذه قد يكون الفيصل بين كوننا أحرارا، أو أنْ نكون أتباعا بلا هوية. واقعة عاشوراء ليست حدثا انتهى، بل نهجا مستمرا، وكل جيل يختبر فيها بصيرته بطريقة مختلفة، واليوم، مع هذا الكم الهائل من التضليل والتزييف، قد لا يكون هناك سيف ورمح، لكن هناك قلم وكلمة، هناك فكر وعقل، وهناك دائما فرصة لاختيار الموقف الصحيح، فلابد من أنْ نمتلك الشجاعة لنكون حسينيين في وعينا، ولا نبحث عن الأعذار.