رياض الزهراء العدد 220 ملف عاشوراء
النساء في كربلاء..وعي المسير والانتماء
حين نفتح سفر كربلاء، نستقرأ أن مشروع الإمام الحسين (عليه السلام) الإصلاحي لم تكتمل أركانه إلا بوجود النساء، ولم يكن مجرد مرافقات، بل حملن الرسالة، وخططن بالدمع، والكلمة، والوقار، ملامح نهضة خالدة، وهن شريكات الجهاد، وصانعات الوعي، وناقلات لنهضة لن يطفأ وهجها. في نبض الطف، لا على الهامش لقد كان للمرأة في ركب الإمام الحسين (عليه السلام) وجود مقصود، وهادف، ومدروس، فبهن لابد لملحمة عاشوراء من أن تروى، فكانت سيوف الرجال تصنع الحدث، وذاكرة النساء تحفظ، وبفصاحتهن يشرحن، وبالبيان يحيين، وبلسان الحكمة ينطقن، فكن نبض الطف من بداية المسير نحو كربلاء حتى العودة إلى المدينة المنورة. إن عقلية القيادة الفذة لدى السيدة زينب (عليها السلام) وهي في قمة الفقد، كانت تدير الوعي ببسالة، مثلما يخطط القائد في ساحات الحرب، ولم يكن البكاء لمجرد العاطفة من أجل استشهاد أخيها (عليه السلام)، بل كانت كل دمعة تصنع فارقًا من الوعي في إيصال المظلومية، وتبيين مغالطات وقعت على أهل بيت النبوة من أمةً ضلت وأضلت، فلم تكن ترفع صوتها نائحة، بل كانت تخترق أسماع الطغاة بصوتها الرسالي، وحين وقفت في مجلس ابن زياد وبعده مجلس يزيد، كانت تمثل إعلام الحق كله، وتهزم كل منصات التزييف. عباءة من رماد الخيام إلى منابر العزة إن مفهوم الإعلام هو نقل الواقع وتفسيره بهدف التأثير، وهذا ما كانت تمارسه بنات الرسالة بأبلغ الصور، فبعد مأساة عاشوراء، لم تنكفئ النساء على جراحهن، بل صرن منارات تتقد بالحق، فامتدت خيوط عباءاتهن من رماد الخيام، ترسم هوية من العزة راسخة، تعتلي المنابر بعزة. فالسيدة زينب (عليها السلام) كانت الناطقة الرسمية المفوهة عن قافلة العزة، والمراسلة والمدونة الأولى في التاريخ الشيعي، والصوت النسائي المقاوم الأول، والمحللة السياسية التي كشفت زيف الطغاة، وأما بقية النسوة، فكانت كل واحدة منهن تسطر الملحمة من موقعها أما، وأختًا، وبنتًا، وأثبتن للعالم أنهن على الرغم من الرزايا شامخات، حتى شهد لهن أعدائهن بقوة البأس والثبات، وكانت كلماتهن زلازل أطاحت بعروش الطغاة، إنهن لم يكن ناقلاتٍ للألم فقط، بل كن مهندسات لخطاب عاشورائي بني عليه وجدان الأمة. فحق علينا ألا نحب السيدة زينب عليها السلام فقط لأنها صبرت، بل لأنها امتثلت لأوامر إمام عصرها ولم تخالفه في شيء، وكانت نعم العالمة العاملة المتفقهة في الدين، والتي تؤلف بين العقل والعاطفة بعين الوعي والبصيرة، وكذلك باقي النسوة، فنحن لا نقدس السيدة سكينة (عليها السلام) لأنها ابنة الحسين (عليه السلام) فقط، بل لأنها سطرت بصمتها حكمة الأنبياء. حين نعلم بناتنا قيم كربلاء، لا نحدثهن عن الحزن فقط، بل عن القيادة، والجرأة، والهوية، والانتماء العملي لا الصوري الجامد، فعاشوراء ليست طقوسًا وشعائر مفرغة من معانيها التي تحدد ملامحنا من نكون في معترك الحياة. وفي عصرنا الذي تضج فيه المنصات بمختلف الانتماءات، وتغتال فيه القيم بالصوت والصورة، نحن أحوج إلى الاستلهام من الإعلام الزينبي الرصين الثابت المبني على منطق الكلمة لا بهرجة الجماليات، فنساؤنا اليوم لسن بعيدات عن كربلاء، بل يطلب منهن أن يكن زينبيات البصيرة والحكمة، وسكينيات الخطاب الواعي، وربابيات الهوية الثابتة. معركة الحق والباطل لا تزال تخاض، فإذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) والذين معه قد قدموا الدماء والأرواح ليبقى الدين، فإن النساء قدمن وعيهن ليبقى الدم حيًا في العقول والقلوب، هن الإعلام الحي، والمدرسة المتنقلة، والقدوة التي تنجب كل يوم بنتًا زينبيةً جديدةً، لا تسكت عن الباطل، ولا تداهن في الحق.