رياض الزهراء العدد 220 ألم الجراح
من مناسك الوجع
في سامراء، حيث الأزقة تهمس بذكر الراحلين، وحيث كل حجرٍ يرتل آيات الحزن، تسير الأرواح في دربٍ طويلٍ من الألم، كأنها لم تغادر بعد وادي كربلاء.. هنا في مدينةٍ تتشح بالقداسة، تمتزج رائحة التراب بعبق الدموع، وتنحني القباب إجلالا لمواكب الحزن العابرة للزمن.. بين قباب سامراء الذهبية وسراديبها العتيقة، يقف الزائر متأملا امتداد الفاجعة، فكل خطوة على أرض سامراء تعيده إلى هناك، إلى الطف، إذ كان السيف أبلغ من الكلمات، والدم أصدق الروايات، كيف لا، وهي التي احتضنت في قلبها لواعج الانتظار، إماما يراقب جراح جده التي لم تندمل.. هنا في سامراء، حيث يتردد صدى الفاجعة، وحيث الجدران تحفظ أنين المظلومين، كنا نبحث عن أثره المقدس، عن صوتٍ يحملنا إليه، كنا وما نزال يعتصر قلوبنا الألم، نفتش بين الأضرحة والمآذن، وفي زوايا المساجد، وتحت قبةٍ كانت شاهدة على الغياب.. إنه الوجع ذاته، يتكرر في كل زمانٍ ومكان، في العيون التي تبكي، في المواكب التي تسير حافية الأقدام، في المواويل التي ترتل على وقع الأقدام المتعبة.. سامراء اليوم ليست سوى امتداد لمحراب البكاء، مئذنة تنادي، وصوت يردد: "هيهات منا الذلة"(1)؛ ليتجدد العزاء، إذ لا يزال التراب يختزن حكايا العابرين نحو الفقد، ولا تزال القلوب تنبض بلحن الفجيعة، كأن سامراء في كل ليلة ترفع راية الحزن؛ لتكمل مناسك الوجع.. مثلما في كربلاء، هنا في سامراء يمتد الحزن ظلالا للوجع، وتمتد الدمعة الأولى امتدادا لدمعةٍ سقطت على رمضاء الطف، فيطل الحنين بنداءات لم أفهم معانيها، لكنها أشعلت الروح، وملأت مسامات الوجدان بهتافاتٍ لا تهدأ: "يا لثارات الحسين"(2).. ما تزال سامراء تفترش سنابل الوجد على أعتاب فجرٍ متمرد، كأن كل الفقد قد ارتحل ليستوطن هنا، وسط الأزقة التي ترتدي ثوب الحداد.. مثلما في كربلاء، هنا في سامراء يتكسر المستحيل على شطآن الانتظار، فهنا تنذر الأرواح نفسها قربانا، وتنسكب الصلوات غيثا على الضريح، إذ تحولت طقوس الحزن إلى وشم على أوردتنا، وإلى صلاة على مشارف الخلاص.. ............................ (1) كلمات الإمام الحسين (عليه السلام): ج1، ص12. (2) عوالم العلوم، الإمام الحسين (عليه السلام): ج2، ص 66.