"ما رأيت إلا جميلا"
أرخى الليل سدوله، وعم الصمت الموجع المكان، استسلمت العيون الثكلى للسكون، بين إغفاءة تعب وإغفاءة حلم بعد انقضاء يومٍ عصيبٍ لم يكن في الحسبان، إلا عينا هجرها النعاس لثلاث ليالٍ متواليات، انسحبت جبل الصبر بهدوء وهي تجر رجليها بصعوبةٍ بالغة، صمت يسور بقايا الخيام التي أمست رمادا يذر في الوجوه المكلومة كلما مرت نسمة هواء. وصلت عقيلة الطالبيين إلى ساحة المعركة، تتحسس الأجساد الطاهرة المتناثرة على الأرض، تريد الوصول إلى جسد عمود خيمتها المحترقة، تقتفي أثر العطر الذي يذكرها بعطر والدتها، تلمست الجسد الشريف الذي أمسى من دون رأس بعد أن خسفت حوافر الخيول الأعوجية* صدره الطاهر، حتى تهشمت أضلاعه، وطحنت عظامه، والتصق الصدر بالظهر. كتمت نشيجها كي لا يسمعها ولا يراها أحد، انحنت على الجسد المضرج بالدماء حتى بزوغ الفجر بين دموعٍ وعتاب، كفكفت دموعها ورفعت رأسها، وعادت أدراجها إلى المخيم المحترق، مودعة المسجى على الأرض، متأملة ما سيجلبه لها هذا الصباح المشؤوم الذي بدت به وحيدة، لا ولي لها ولا كفيل، حولها ما تبقى من أطفال ونساء، والإمام العليل (عليه السلام). في الصباح الباكر بدأت رحلة طويلة من السبي، والقهر، والألم المخبأ خلف ذلك الوجه الأبي الذي لم ينحن إلا لله جل وعلا، وقد آلت على نفسها السير على قدميها بدلا من ركوب الناقة؛ لحاجة في نفسها ممسكة بمنزلتها الكريمة؛ لتقف بعدها أمام الدعي ابن الدعي، وتقول بصوت هز أركان ملكه الزائف، بعد أن وجه سهام كلامه الحاقد إلى قلبها: ـ كيف رأيت صنع الله بكم؟ فقالت (عليها السلام): "ما رأيت إلا جميلا"(1). فعمدت إلى قتل غول النشوة في نفسه الشيطانية، وكسرت الانتصار المزعوم، فتهدم عليه صرح الشماتة والتشفي، فهذا ديدن الحرائر. هذا ما حدثتنا به جدتي عن جبل الصبر الحوراء زينب (عليها السلام) ونحن مقيدات بالحبال ببعضنا؛ لنمضي ليلة عصيبة عندما اقتادتنا الغرابيب السود سبايا من سنجار إلى المجهول. ....................... *خيول الأعوجية: فصيلة من الخيول تمتلك حوافر ضخمة وثقيلة، استخدمت لسحق صدر الإمام الحسين (عليه السلام) في معركة الطف بكربلاء. (1) بحار الأنوار: ج45، ص116.