رياض الزهراء العدد 221 أنوار قرآنية
امتحان النعم في سورة (سبأ)
سورة سبأ من السور المكية التي تركز على دعائم العقيدة الإسلامية من التوحيد، والنبوة، والحساب والبعث، إضافة إلى قيم الشكر والإنعام، والجو العام للسورة يتجلى في ثلاثة أنواع من الخطاب: ١- الخطاب التحذيري: في آيات الإنذار لقوم سبأ والكافرين. ٢- الخطاب التأملي: في دعوة الإنسان إلى التفكير في قدرة الله تعالى على الخلق وإعادة الإحياء. ٣- الخطاب القصصي: الاستعانة بأمثلة قصصية تؤكد رسالة السورة. ولذا سورة (سبأ) تجمع بين السرد القصصي والتأمل العقلي، والتحذير استعدادا للآخرة، فتبرز فيها دعائم أساسية مثل: (التوحيد، شكر المنعم، العدالة الإلهية، حتمية الحساب)، وهي بذلك تشكل وثيقة تربوية توازن بين الرؤية المعنوية والتوجيه العملي. وفي ثنايا هذه السورة يبرز مشهدان رئيسان يمثلان نقيضين في التعاطي مع النعمة الإلهية، مشهد آل داود الذين شكروا نعمة الله (عز وجل) فزادهم الله من فضله، ومشهد قوم سبأ الذين كفروا بتلك النعم فأذاقهم الله سبحانه لباس الجوع والخوف، فالسورة تقدم أنموذجين متكاملين لفهم فلسفة النعمة والابتلاء، وتدعو القارئ إلى التأمل في مصير كل من الشاكرين والكافرين. وفي الخطاب القصصي من السورة يذكر القرآن الكريم قصة آل داود في قوله تعالى: (ولقدْ آتيْنا داوود منا فضْلا يا جبال أوبي معه والطيْر وألنا له الْحديد أن اعْملْ سابغاتٍ وقدرْ في السرْد واعْملوا صالحا إني بما تعْملون بصيرٌ ولسليْمان الريح غدوها شهْرٌ ورواحها شهْرٌ وأسلْنا له عيْن الْقطْر ومن الْجن من يعْمل بيْن يديْه بإذْن ربه ومن يزغْ منْهمْ عنْ أمْرنا نذقْه منْ عذاب السعير)(سبأ:10-12)، بينت الآيات مظاهر النعمة على آل داود، منها: 1- نعمة التسخير الكوني عن طريق تسخير الجبال والطيور التي تسبح مع داود (عليه السلام)، وهذا المشهد يعد مشهدا إعجازيا، يبين كيف تناغم الكون مع نبي الله تعالى، وفيه دلالة على الطهارة الروحية، إضافة إلى معجزة تليين الحديد لداود؛ إذ إنها مهارة صناعية خارقة تمكنه من صنع الدروع بخبرة فريدة. 2- نعمة الملك والتمكين لسليمان (عليه السلام)عن طريق: تسخير الرياح التس تسير بأمره حيث يشاء. تسخير الجن: في أعمال البناء والغوص، مما يظهر مدى اتساع سلطانه. رقابة الله سبحانه على الجن: موت سليمان (عليه السلام) كشف أن الجن لا يعلمون الغيب، وهذا تعريض بضعفهم على الرغم من قوتهم الظاهرة، فكانت النتيجة قوله تعالى: (اعْملوا آل داوود شكْرا وقليلٌ منْ عبادي الشكور (سبأ:13)، وهي دعوة صريحة إلى العمل المرتبط بالشكر، أي أن الشكر الحقيقي لا يكون بالكلام فقط، بل بالتصرف العملي والمسؤول تجاه النعمة. ويذكر القرآن الكريم قصة قوم سبأ في قوله تعالى: (لقدْ كان لسبإٍ في مسْكنهمْ آيةٌ جنتان عن يمينٍ وشمالٍ كلوا من رزْق ربكمْ واشْكروا له بلْدةٌ طيبةٌ ورب غفورٌ (سبأ:15) بينت الآيات مظاهر النعمة على قوم سبأ، منها: 1ـ الأرض الخصبة الصالحة للزراعة، ووفرة الزرع والعيش الرغيد في بيئة زراعية مستقرة ومزدهرة. 2- الاستقرار والتواصل مع الآخرين، مما يعكس حضارة مزدهرة، تربط (اليمن) بـ(الشام) من دون خوف أو تعب، أشبه بممر تجاري آمن. 3- واجه قوم سبأ النعم بالكفر والعصيان وعدم الشكر، واستبدلوا الرغد بالجحود، فجاءهم العقاب الإلهي، فكانت النتيجة في قوله تعالى: (فأعْرضوا فأرْسلْنا عليْهمْ سيْل الْعرم وبدلْناهم بجنتيْهمْ جنتيْن ذواتيْ أكلٍ خمْطٍ وأثْلٍ وشيْءٍ من سدْرٍ قليلٍ)(سبأ:16)، إذ دمرت حضارتهم الطبيعية، وبدلت جنانهم بأرض جدباء، فيها (خمط، وأثل، والقليل من السدر)، وهذه كلها نباتات ليست لها قيمة اقتصادية، وهذه كناية عن انقلاب النعمة إلى نقمة. وهنا وجه المقارنة بين قصتي آل داود وقوم سبأ، فكلا القصتين تعرضان الموضوع ذاته: (الابتلاء بالنعم)، ولكن باختلاف الاستجابة، إذ إن آل داود جعلوا من النعمة سلما إلى القرب من الله تعالى، بينما جعلها قوم سبأ وسيلة للتجبر والغفلة. الدروس والعبر المستفادة من القصتين: 1- النعمة امتحان لا مكافأة، فليستْ كل نعمة دليلا على رضا الله تعالى، بل قد تكون وسيلة ابتلاء واختبار القلب. 2- الشكر لا يكون إلا بالعمل، فالقول وحده لا يكفي، بل لابد من أنْ يترافق مع العدل، والصلاح، والسعي في الأرض بما يرضي الله تعالى. 3- الاستقرار والعمران لا يدومان بدون وعي، فحضارة سبأ ذهبتْ أدراج الرياح رغم تقدمها؛ لأن بنيتها الروحية كانت ضعيفة. إن سورة سبأ تثبت القانون الإلهي: (وإذْ تأذن ربكمْ لئن شكرْتمْ لأزيدنكمْ ولئن كفرْتمْ إن عذابي لشديدٌ)(إبراهيم:7)، فقصة آل داود تمثل صورة مشرقة لشكر المنعم، وقصة سبأ تمثل سقوطا مروعا بسبب الكفر بالنعم، وبين الشكر والكفر يقف الإنسان حرا في اختياره، لكنه مسؤول عن مآلاته وعواقبه، وهو جوهر ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إن الله عز وجل أنعم على قوم بالمواهب فلم يشكروا فصارت عليهم وبالا، وابتلى قوما بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة"(1). ............................. (1) ميزان الحكمة: ج 2، ص1487.