رياض الزهراء العدد 221 الحشد المقدس
الحنين إلى الزيارة
أسير بخطوات ثابتة، بقلب يشده الحنين، تعانقه الأشواق إلى مرقدك يا مولاي، أسلك الطريق ذاته غير مكترث لما قد أواجهه من مشقة وتعب، ومثلما جرت العادة انطلقت متجها نحوك من حرم مولاي أمير المؤمنين (عليه السلام)، حاملا معي نفحات هذا البيت: تبلغ باليسير فكل شيءٍ من الدنيا يؤول إلى انقضاء(1) كان دأبي هو أنْ أطوي الطريق وأنا منغمس بين زيارة عاشوراء، وبعض الأدعية، وبين المناجاة، ولطالما أحسست بثقل الحقيبة على ظهري أحيانا لكثرة ما أحمله من كتب، لكني أتجاهل الأمر بتذكيري نفسي أهوال عالم الآخرة، فأغوص في التفكير، ويجرني صوت المنادي لشرب شاي (أبو علي)، وأراني أقف عنده لآخذ (كوبا سفريا) لكيلا تنقطع سلسلة أفكاري بطول الوقوف، أتساءل: هل في الدار الآخرة كهذه المواكب لتوزيع الشاي باسم سيد الشهداء؟ رفعت رأسي لأرى رفرفة الأعلام بألوانها ورسوماتها وما كتب عليها من العبارات التي تعبر عن أحداث الطف الأليمة، فأتأملها للحظة، وفجأة استقبلت الأرض بيدي، وأخذت الدماء تسيل من قدمي إثر تعثري بحجر لم أنتبه إليه، هرع الزوار ليحملوني إلى أحد المفارز الطبية لتلقي العلاج اللازم، ولشدة الحفاوة لم أشعر بالألم كثيرا، لكن ما أحزنني هو عدم قدرتي على مواصلة الطريق حتى يتحسن الجرح، فكان علي المكوث في أحد المواكب القريبة من المفرزة لبعض الوقت، لم أنتبه إلى اسم الموكب، غير أني أحسست بمشاعر غريبة عند دخولي، كل شيء كان مألوفا لدي، من المصابيح إلى السجاد، وبينما أحدق في المكان تعالت الأصوات من الجانب الآخر، أصواتٌ أعرفها جيدا، ولشدة تداخلها لم أفهم ما حدث، فقمت أجر قدمي لأجدد الوضوء لصلاة الظهر، فجرني الفضول نحو رجل كبير في السن، يجلس على أريكة مركونة في زاوية، مطأطئا رأسه، كأن الهموم جبال على كاهله، دنوت لأجلس بالقرب منه، وعندما هممت بمحادثته ناداه أحدهم: يا حاج، هل أجلب لك الغداء؟ هز رأسه بالنفي، فقلت في نفسي: لأجرب أنا وأكلمه، فلم يرد علي، أعدت قولي، فلم يجب، جاء أحدهم بكأس من الماء، فسألته عن حال هذا الرجل، فلم يرد هو أيضا، هنا شككت بأن صوتي غير مسموع، أو قد لا يكون لي صوت أصلا، وما إنْ رفع الرجل رأسه حتى تبددت شكوكي، وأصبحت متيقنا، فلم يخطئ حدسي، إن الرجل أبي، وهذا موكبنا، وهؤلاء أهلي في خدمة زوار الإمام الحسين (عليه السلام) مثلما هو الحال في كل عام، فالآن لا حاجة للسؤال. ثم لمحت عيني صورتي، وقد كانت آخر صورة التقطتها قبيل التحاقي بالحشد المقدس، معلقة على جدار الموكب، وكان أبي يجلس أمامها، لم يزل جرح فراقي ينزف، ولم تجف عيناه من الدموع، كسر قلبي منظره بهذا الحال. غادرت روحي المكان، وأدركت أمرا لطالما شغل تفكير المحبين: هل في القبر نعيش أجواء زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)؟ لا تسير أجسادنا إلى مأوى العاشقين، لكن أرواحنا ستعانق القباب، وتلتف حول الضريح في كل وقت وحين. ................... (1) ديوان الإمام علي (عليه السلام): ص16.