بنيتي رقية: عليك السلام

نرجس مهدي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 34

صغيرة في العمر، لكن قدرها لا يقاس عند الله تعالى وعند والدها، فهي سمية أمه الزهراء (عليها السلام) وشبيهتها، يلاطفها بابتسامته، ويغدق عليها من عطفه، تشعر بالزهو لمحبته، تجلس بالقرب من مصلاه، تسمع جميل ترتيله، وسمو مناجاته، فتغفو إلى جنبه وعلى أجفانها تطير فراشات السعادة، ولم لا، فهي عزيزة أبيها الحسين (عليه السلام) وصغيرته، وفرحة أيامه، وإذا انشغل عنها بأدواره، تلقفتها عمتها الحنون عقيلة بني هاشم السيدة زينب (عليها السلام)، فتغمرها بمحبتها وتحيطها برعاية خاصة، تغبط رقية (عليها السلام) نفسها لهذا الكم من الحب والحنان الذي يهدهد روحها الرقيقة. توزع نظراتها بين أحبتها: أخوتها، وأخواتها، وأعمامها، فتشعر بالرضا والامتنان لخالقها العظيم الذي حباها بهذه الأسرة النورانية، ولرقتها وشفافية روحها السماوية، تدرك ما يدور من حولها، مما يظهر على قسمات الوجوه، ولحظات العيون، فعلى الرغم من عمرها الصغير، إلا أنها تمتلك بصيرة تفوق سنها، فهم من أهل بيت زقوا العلم زقا. الوجوه واجمة، والعيون دامعة، لا تدري ما الذي جرى وسيجري، فالكل على استعداد للسفر، وهي تتساءل في سرها لم السفر، وإلى أين؟ وجاء يوم الرحيل وانطلقت القافلة، لم تشعر السيدة رقية (عليها السلام) بوحشة، فنور والدها الحسين (عليه السلام) يضيء درب المسير، وحنو عمتها يدفئ أضلاعها وينسيها وحشة الطريق، وصلوا إلى أرض الفداء والابتلاء، هنا محط الرحال، وهنا سيكتب التاريخ بدم عبيط ما تجود به نفوس خيرة الرجال وهم يتسابقون إلى فداء الإمام الحسين (عليه السلام)، تساقطوا كالنجوم الزاهرة، وعفروا الجبين فداء لمولاهم الحسين (عليه السلام)، وفاضت كربلاء بالدماء، وأنطفأ نور النهار وحل الظلام، قتلوا سبط الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأحرقوا الخيام، وبذلك أحرقوا قلوب حرائر البيت النبوي، وارتجت السماوات، وبات أيتام آل محمد (صلى الله عليه وآله) في الهجير، استوحش الأطفال، والتفوا حول عمتهم ليشعروا بالأمان، ونامت صغيرة الحسين (عليه السلام) وكل الأطفال على الرمال، وظلت تسأل عمتها: لم سافر أبي ولم يودعني؟ أين أخوتي؟ أين عمي العباس؟ أسئلة كثيرة كانت تدور في خلدها لا تجد لها جوابا، حتى وصلوا إلى أرض الشام، وفي تلك الخربة التي لا تقيهم حرا ولا بردا، ومع كل المصائب العظام، تنادي أباها كل يوم: أبي، ما تعودت منك هذا الجفاء والهجر، ما الذي أخرك يا مهجة الزهراء (عليها السلام)؟ روحي عطشى لرؤية سنا وجهك.. نامت وخضلت جفونها بالدموع، كأن عينيها قد اغتسلتا غسل اللقاء.. فجاءها كشمس الضحى، فتح ذراعيه وناداها: إلي، إلي.. أقبلت نحوه وهي ترتجف فرحا، أبحرت معه إلى عالمه الملكوتي، وارتسمت في عينيها الذابلتين فرحة اللقاء، فما فتئت تسمع همس النداء: بنيتي رقية! عندما فتحت عينيها، لم تطق الفراق، وقعت على نحره الشريف تقبله، وهوى جسمها النحيل، وارتفعت روحها الطاهرة إلى الملكوت الأعلى، تشكو إلى خالقها ظلم الجبارين..