الشهيد الأول
ما بين ربيع وصفر، تكمن العبرات والعبر، وتتباهى الدنيا بحلول أكرم ضيوفها عليها، ثم تتباهى الآخرة باستضافة سيد البشر. أي شرفٍ يا جبل فاران قد حزت حتى غدا ترابك موطئا لقدم خير البرية! وأي سؤدد يا أرض يثرب قد فزت به، حتى غدا ترابك مثوى له ومستقرا لبدنه الطاهر! وحتى لا يشغلنا تمجيد المكان الذي ضمه وحاز أنفاسه، والزمان الذي احتوى بركاته وأقداسه، نرمي بأبصارنا إلى البعيد، إلى ما وراء المدى المنظور واللامنظور، لنقرأ في أسفار التاريخ بعض السطور، وأي سطورٍ تلك يا سيد العرب والعجم، والجن والإنس، والأولين والآخرين! بلى، فعلى قدر علو مقامك أيها الحبيب، تتسامى كل القمم التي لامست علياءك، وتتهاوى كل الوديان التي تباعدت، فما عرفت عطاءك يا صاحب الخلق العظيم الذي بلغ من الكمال الإنساني غاية المنتهى، واقترب من رب العزة، حتى كان قاب قوسين أو أدنى. يحتار القلم في اختيار الحروف، والعقل في معرفة جزء من كنه الموصوف، أما القلب فيتيه في كعبة عشقه ويطوف، ويسعى بين صفاء هداه ومروءة نداه، فيحج في ركابه حجة الوداع، وينزل معه غدير الولاية، ويبايع وصيه بكف الهداية، ويردد خلفه وصاياه: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه..."(1). غير أن الشيطان الذي يتغلغل بين قلوب المنافقين وعقولهم، ويزين لهم مخالفة نبيهم، ويدعوهم إلى نجوى السوء ليرسموا خططهم، ويعقدوا أحلافهم المشؤومة، يقف بالمرصاد لخير الخلق وأحبائه، ويعيد مقولته الأولى التي قالها في الرد على الباري تعالى حينما وقف كافرا بعطاياه وآلائه، ﴿فبعزتك لأغْوينهمْ أجْمعين۞ إلا عبادك منْهم الْمخْلصين﴾ (ص:82-83). ها هم أولاء الغواة العصاة يا رسول الله! الذين اغتروا بوعود إبليس فضمهم لجنده، فإذا هم يعقدون صفقتهم الشيطانية ما بين ظهراني بيت النبوة والإمامة، ويرسمون خططهم لإغواء البشرية، فإذا هم أعوان الشيطان يرفعون راية العصيان لنبيهم، ويدسون له زعاف خيانتهم، ويقفون في وجهه يمنعونه من تأدية الأمانة، فبعدا لهم وترحا، وأسفا على أمةٍ اتبعتهم فضلت، واستظلت بفيء شجرتهم الخبيثة وتغذت من زقومها. يا حبيب الله! لهفي على السم الذي جرعتك إياه يد السوء، حتى غدوت أول شهيدٍ من شهداء بيت العصمة والطهارة، ولهفي على بضعتك المصطفاة التي أقرح جفنها مصابك، وعلى صفيك ووصيك الذي لازمك في ساعاتك الأخيرة ملازمة الفصيل لأمه، وشهد ظلامتك قبل أنْ يشهد ظلامته، فارتشف من معين صبرك ما اقتدى به وأنت أسوته وقدوته. لهفي على حبيبيك علي وفاطمة (عليهما السلام) وهما ينظران إلى القوم يمنعونك من كتابة الوصية، إذ تقول: "ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا"(2)، فيقولون بكل صفاقة: إنه يهجر! أو يهجر النبي الذي جعله الله للبشر آية وقدوة ونبراس هداية؟! أو يهجر أكمل الخلق وهو على فراش الموت حين يريد أنْ يكتب كتاب الحق؟! خسئتم مثلما خسئ أصحاب الرس وقوم عادٍ وثمود، وآلمتم قلب النبي (صلى الله عليه وآله) وأضللتم أمته، فلعنكم الله والملائكة والناس أجمعون. وإن لكم مع النبي (صلى الله عليه وآله) وقفة في يوم البعث لا تدانيها إلا وقفة قابيل من هابيل، والسامري من موسى وهارون (عليهما السلام) يومئذٍ تندمون ولات ساعة مندم: ﴿يوْم تقلب وجوههمْ في النار يقولون يا ليْتنا أطعْنا الله وأطعْنا الرسولا﴾ (الأحزاب:66). هو ذا مفرق الأحباب قد وقف ببابك يا رسول الله، يستأذن عليك وما استأذن على أحدٍ قبلك، ولا يستأذن على أحدٍ بعدك، فأي حرقة قلبٍ واجهت بها الموت وأنت تعلم أنك خلفت أمتك للضالين المضلين، وأهل بيتك للعذاب المهين، لكنه الصبر الذي فقهت به أحباءك، وعلمك أن الله متم نوره ولو كره الكافرون. هي ذي صفيتك الزهراء (عليها السلام) تودعك الوداع الأخير، وتسر إليها فتبكي حزنا على فراقك، ثم تتبسم فرحا بقرب لحاقك؛ لتكون بعدك أول شاهد على ظلامة أهل بيتك، وثاني شهيدةٍ تلفها أكفان الجنة، ويعفى قبرها لتكون للعالمين جنة، يعلم القاصي والداني بأنها كمثل ذلك المكان الرفيع لا ينال رضاها إلا بتلك المنة، وقد استودعها الباري سر الإمامة، كنزا لا يكتشفه إلا من شرح الله صدره بالإيمان، وعرف حق محمدٍ وآل محمدٍ (صلوات الله عليهم) منذ كانوا حتى هذا الزمان. فالسلام على رسول الرحمة والهدى يوم ولد مكرما، ويوم استشهد مظلوما، ويوم يبعث حيا ليشفع لمن اهتدى من أمته، وحاشا لمن ضل وسلك سبيل الغواية أنْ ينال شفاعة صاحب النبوة والولاية. ............... (1) بحار األنوار: ج 37 ، ص 126. (2) المصدر نفسه: ج ،3٠ ص 533.