هبات الأربعين الحسيني
حدث يستجلب الأرواح من غياهب السكون إلى عنفوان الولاء وخلاقيته، إلى الموعد الذي يقرع أفئدة الوالهين قرعا لا تستقر معه أرواحهم في أجسادهم حتى يوافون سيدهم مثلما يشاء الله تعالى شعثا غبرا، تأكل الصحراء من أبدانهم، فيعوضهم مولاهم بزاده الملكوتي من مائدته الممتدة على أنحاء بلاد الرافدين في هيئة أغصان شجرة طوبى المتدلية من جنة الخلد. هذا هو مسير الوالهين في زيارة الأربعين، إذ يجسد المحبوب القلب الذي يغدق الشفاء على كريات الدم العليلة المتدفقة نحوه من شتى الأمصار؛ لتصدر منه سليمة معافاة! ذكرى الأربعين الحسيني معجزة تتكرر منذ أكثر من ألف عام على شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، إنها معجزة الخلود الذي أفاضها الله تعالى على وليه الذي بذل مهجته خالصة في سبيله. وفي هذا المسير الإلهي، تتجلى الهداية الحسينية، تتجلى مصباحية الحسين (عليه السلام) بإضاءة الطريق للمريدين والتائهين، وتبرز سفينته المنجية في حفظ عقيدة الزائرين، وتتجلى هاتان السمتان في موسم زيارة الأربعين بشكل واضح وفريد، فكم من تائه سلك إلى الله تعالى عبر إعجاز هذا الموسم الإيماني الخالص! إن اضطلاع الأفراد والمؤسسات والمواكب والهيئات الحسينية بعمل تعجز عنه الدول الكبرى، ليكشف عن رعاية غيبية ربانية من دون شك، فالحفاظ على انسيابية الخدمات لما يزيد على عشرين مليون زائر، عمل تنوء به الإمكانات البشرية المحدودة، وهنا تقرع القلوب ببصيص النور إليها، البصيص المتصل بمصباح الهدى، فيدفع التائهين إلى ركوب سفينة النجاة الحسينية. لا ينحصر أثر الهداية الحسينية فيمن قصد زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ماشيا، بل يتسع ليزلزل أفئدة من لم يحاول طي المسافات للوصول إليه، أو من لم يتشرف بحقيقة الانتماء والولاء، فيثير فيه زوبعة الحق العطرة ليحرك في قلبه تلك الخواص الجاذبة، مخرجا إياه من ظلمات النفس الأمارة إلى نور الحق المتجلي في الحسين (عليه السلام)، مجيبا عن التساؤل المشروع من العارف وطالب المعرفة: علام هذا الاختصاص؟ ليلتمع نجم الإخلاص كاشفا عن جوهر القبول الإلهي، وهنا تتبلور هداية الحسين (عليه السلام) ومصباحيته مجددا في الكشف عن العلائق الإلهية الموصلة حتما إلى الرضوان الإلهي وفيوضات العطاء، فالإمام الحسين (عليه السلام) يعلم الخليقة أبجديات الإخلاص، ومحوريته في قبول الأعمال وخلودها ونمائها، فهو الذي بذل مهجته في الله سبحانه: "وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة"(1). ولا يكتفي هذا الموسم الخاص جدا بهذا المقدار من الهداية، بل يفتح عين القلب على تعميق الارتباط العاطفي والروحي مع أحداث المسير إلى كربلاء، فيزداد القلب رقة وارتباطا بأولياء النعم وهم ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين يغرق في آلام السبي التي يتحسسها من مشقة السير نحو كربلاء، فيرى في كل خطوة مصائب الحوراء زينب (عليها السلام) التي ترصدها بآهٍ عين الحسين (عليه السلام) الشاخصة فوق الرمح، مشرفا بهذه المشاعر على شيء مما ورد في زيارة الأربعين من مصائب الحسين (عليه السلام): "فجاهدهم فيك صابرا محتسبا حتى سفك في طاعتك دمه واستبيح حريمه"(2)؛ ليزداد علقة وكمالا حين تنضج فيه الجنبة المعرفية والروحية. لا تقف التربية الحسينية في هذا الموسم عند هذا الحد، بل تأخذ بمجامع قلوب القاصدين إلى ناحية أخرى من أنحاء العلاقة بالمعصوم الهادي المرشد، إذ يمتد زاد الحسين (عليه السلام) على مد البصر؛ ليستنير القلب بحقيقة أولياء النعم المعصومين جميعا. أجل، هكذا يحقق موسم زيارة الأربعين توليفة هداية استثنائية: فكرية، عقائدية، روحية، أخلاقية؛ ليصنع من الحسينيين أولياء يسيرون نحو التكامل والعروج الروحي، وهكذا يؤيد الله سبحانه بنصره من يشاء، ويري عباده أن سننه هي الجارية في الكون؛ لتخرس أفواه الماديين الذين يبحثون عن المنافع والنتائج المادية فحسب؛ فمدار الأمور على الإخلاص والرضا والقبول الإلهي، وهنا تتبدل المعادلات، وتنسف القوانين النظرية بقوانين العدالة الإلهية التي تدبر ظاهر الحياة الدنيا وباطنها تدبيرا خفيا. ................ (1) مصباح المتهجد: ص 788. (2) المصدر نفسه: ص 789.