زيارة الحسين (عليه السلام): نورٌ وزحف

زبيدة طارق الكناني/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 8

كانوا هنا... تسير أقدامهم لا تعرف الكلل، تحمل وجع القرون على أكف الرجاء، وتنشد للمسير أهازيج الولاء.. كانوا هنا... والآن تعود خطاهم قادمة من كل فج عميق، تهمس للتراب: ما نزال أوفياء، ما يزال الحسين (عليه السلام) قبلة القلوب.. في كل نفسٍ من أنفاس الزائرين شعلة من ذكرى كربلاء، تشتعل بين الضلوع، لا تنطفئ وإنْ هبت عليها رياح السنين.. أيديهم تمسح الطريق، تحفر في الذاكرة ملامح الخيام، وتسقي الحجارة دموع العاشقين.. كانوا هنا... والقلب ما يزال هناك، على الرمضاء، حيث سقط الحلم شهيدا، والتفتت السبايا نحو مآذن النجاة، عل الزمان ينسج لهم ورد الرجوع.. كل موكب ينسج حكاية: عن أمٍ تحمل صورة ولدها.. عن شيخٍ يجدد العهد بخطاه.. عن طفل ينشد الحسين (عليه السلام) كأنه ولد الآن في أرض الطف.. في زيارة الأربعين الدمع لا يغسل الألم، بل يزهر على خد الإيمان.. والصمت يصلي، والهواء يمتلئ بالسكينة، كأن الأرواح جميعها خرجت من أجسادها، وراحت تحج نحو المدى.. وكانت سامراء تنتظر وجوههم عند الضريح.. تحضن بين أضلاعها الحنين إلى الغائب المنتظر.. تتم خطى العاشقين، وتكمل السلسلة من كربلاء إلى فجر الرجوع.. تتشابك الأكف وتعانق الطرقات أقدام السائرين بعد أنْ اتشحت بالسواد، تحث الأرض على احتضان الأسرار.. وترتفع الأعلام كجفونٍ أرهقها السهر.. وتتكدس الأماني على عتبات الضريح، كأن الخطى العائدة من المنافي تعيد كتابة العهد.. والأزقة تحفظ النداء الأول: "هل من ذاب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ أما من طالب حق ينصرنا؟" (1) وفي كل زاويةٍ من الطريق، يتردد الصدى همسا: لن نهزم ما دام الولاء حيا.. الخطى لا تضل، والقلوب لا تنسى؛ لأن الدمعة تعرف طريقها نحو النور.. كانوا هنا وما يزالون.. في كل نبضة قلبٍ مشى.. في كل قنديل أضاء الطريق.. في كل قبلةٍ طبعت على العتبة المقدسة.. يا سليل الطفوف... دعْ للوجع بقية، ودعْ للولاء بقية.. فالحسين دمٌ لا يجف، وصوتٌ لا يصمت.. وسامراء وعدٌ لا يخلف.. ................... (1) حياة الإمام الحسين (عليه السلام): ج3، ص 274.