على كريم الآل فلتذْرف الدموع

مريم مهدي صالح/ بابل
عدد المشاهدات : 16

لا يبقى الإنسان مجروحا طوال حياته، فالغوث الإلهي دائما ما يأتي في اللحظة المناسبة لينقذه، يمنحه نهايات سعيدة وبدايات جديدة، يفتح له أبواب المغفرة والنجاة، وعلى الرغم من يقيني بتلك الحقيقة، لكن العبارة الأخيرة بثت في صدري ثقلا غريبا. أسندت رأسي إلى الجدار، مستلقيا على سريري المتواضع في غرفتي الصغيرة، أغمضت عيني، ووجدت نفسي غارقا في بحر الذكريات، حين كانت ضحكاتنا تملأ الحي، والباحة الواسعة تشهد ألعابنا البريئة، من كرة القدم إلى (الغميضة)، قلبي امتلأ بالشوق، وأمواج التساؤلات تلاطمت في رأسي: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ إلى متى سيظل الألم رفيقي؟ قطع سلسلة أفكاري جرس المنبه، معلنا موعد الصلاة، يدعوني إلى المسجد، أو مثلما أحب أنْ أسميه: ملاذي. كنت في يومي الأول في المدينة الجديدة، ولم أكن أعرف أين يقع مسجد المدينة، فاتبعت صوت الأذان الذي قادني إلى وجهتي. عندما وصلت، رأيت المئذنة الزرقاء تشع بهاء، مزينة بالخطوط الإسلامية، والقبة الكبيرة تتوسطها آيات من الذكر الحكيم، والساحة المحيطة بالبلاط الأبيض النقي تضفي على المكان هالة من الصفاء، عندما دخلت المسجد، أدركت عظمة الله تعالى، فقلت في نفسي: إذا كانت أرض الدنيا بهذا الجمال، فكيف ستكون الجنة؟ كانت الزخارف الإسلامية تزين جدران قاعة الصلاة، وكل زاوية تنبض بروحانية مبهرة، جلست أتلو القرآن الكريم بصوت خافت قبيل الصلاة، وبعد انتهاء الصلاة، بدأت القاعة تخلو من المصلين شيئا فشيئا. مر إمام الجماعة من أمامي، كان شيخا وقورا، ملامحه الهادئة تنطق بالحكمة، وعمامته البيضاء تضفي عليه هيبة العلماء، التف حوله مجموعة من الشباب، يصغون إليه بإجلال، فبدأ يحدثهم عن مكارم الأخلاق، وآداب التعامل التي حث عليها الإسلام، كأن كلماته تخاطب أعماق روحي. عندما عدت إلى المنزل، ظل تفكيري مشغولا بذلك الشيخ، هل يمكن أنْ يكون هو الوسيلة التي أرسلها الله سبحانه للتخفيف من ألمي؟ هل هو تلك التدخلات الإلهية التي سمعت عنها كثيرا؟ في اليوم التالي خرجت إلى المسجد قبل الأذان كالعادة، كنت أتوق إلى قيام الليل وتلاوة القرآن الكريم عند الفجر، وأيضا للحصول على فرصة الحديث مع الشيخ. بعد الصلاة جلست على مقربة منه، تشجعت وطلبت الإذن بالتحدث، فرحب بي بكلماته الطيبة كأننا أصدقاء قدامى. بدأت أحكي له قصتي: يا شيخ، لدي أخت أصغر مني، تزوجت بقرار من أبي في سن صغيرة، وقد أنجبت مولودها مؤخرا، لكن المقربين يرفضون الذهاب لزيارتها، أو أنْ نبارك لها مولودها، متمسكين بتقاليد قديمة، مفادها: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا أبناؤهن أبناء الرجال الأباعد(1) يا شيخ، لا أملك في هذه الدنيا بعد وفاة والدتي إلا أختي وأبي، فهل المحيطون على حق؟ أم أن للإسلام رأيا آخر؟ ابتسم الشيخ وسألني: ما اسمك يا بني؟ فقلت: حسن، فقال: اسمك على اسم كريم آل محمد (عليهم السلام)، هل تعرف الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)؟ فقلت: نعم. فقال: إن النبي (صلى الله عليه وآله) كسر هذا العرف بتفضيله وحبه الشديد للإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وعلل بعضهم أن هذا الحب كان نتيجة فقدانه لأبنائه، لكن الحقيقة أكبر من ذلك، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) أكبر شأنا من أنْ تغلب عليه العواطف، فالإمامان الحسنان (عليهما السلام) امتداد لرسالته، والإسلام يعلي الانتماء الروحي على الرابطة البيولوجية، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها، إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم"(2)، صمت الشيخ قليلا، ثم أكمل: لو كانت العلاقة النسبية هي الأهم، لكان النبي (صلى الله عليه وآله) أوصى بذلك بشكل خاص، لكن وصاياه كانت تركز على مكارم الأخلاق والسلوك الحسن، لا على النسب. كان الإمام الحسن (عليه السلام) يشبه جده النبي المختار (صلوات الله عليه)، وقد قسم أمواله ثلاث مرات، وعندما كان يتوضأ يرتعد من خشية الله تعالى، وقد حث (عليه السلام) على التقوى ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام، وغيرها من المبادئ السامية. صمت لبرهة، كأنني وجدت جوابا لأسئلتي، فكيف غفلت عن ذلك؟ كيف حرمت أختي من دعمي ومساندتي إياها واتبعت تقاليد لا تمت إلى الإسلام بصلة؟ شعرت أن نورا قد أضاء قلبي. وضع الشيخ يده على كتفي برفق، فانفجرت بالبكاء قائلا: كيف تركت أختي في أصعب لحظاتها؟ يا لي من مقصر! استرسل الشيخ في الحديث عن مكانة الأخت في الإسلام، واستشهد بموقف زادني رهبة، حين قال: أتدري أن السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) تكنى بـ(أم الحسن)؟ اتسعت عيناي دهشة، وقلت: لكن لم يكن لها ولد بهذا الاسم! فابتسم الشيخ وقال: إنها علاقة روحية عميقة بينها وبين الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، فقد كانت ترى فيه أباها أمير المؤمنين (عليه السلام) بعطفه وحنانه، وعند استشهاده صاحت: (واأخاه! واحسناه!)، على الرغم من وجود الإمام الحسين والعباس (عليهما السلام)، فكر جيدا: لماذا اتصلت بك أختك تطلب المساعدة، أليس لها زوج؟ لأنها ترى فيك السند والدعم. أحسست بنيران الندم تشتعل في صدري، فشكرته من أعماق قلبي وقبلت رأسه، وخرجت من المسجد وكلي عزم على التوجه إلى بيت أختي، فلم أعد أحتمل البعد عنها، حييتها بشوق وحملت رضيعها كأني أمسك بالكون كله. وشعرت بأنني بحاجة إلى تغيير جذري؛ لأن هذا التأديب الذي مررت به لم يكن مجرد كلمات عابرة، بل كان نقطة تحول في حياتي. ............................... (1) شرح ابن عقيل: ج١، ص٢٣٣. (2) شرح إحقاق الحق: ج٣٣، ص١٣٩.