رياض الزهراء العدد 221 بريد القراء
جيل الهيْبة والبساطة: حين كانت الحياة معلما والقيم إرثا
في زمنٍ مضى، لا ترويه الشاشات ولا تحتفظ به ذاكرة الهواتف، كان التعليم شغفا لا فرضا، وكان الشارع مرآة للأمان، وكان البيت مدرسة تعلم الصدق والصبر، جيلٌ حمل الدفاتر الخفيفة، لكنها مثقلة بالمعرفة، وامتشق القلم، وصنع من ضحكاته البسيطة ونجوم السماء الصافية ذاكرة لا تنسى، هذه ليست حكاية حنين، بل شهادة زمن أنجب رجالا ونساء عرفوا أن الهيبة لا تقاس بالصوت المرتفع، بل بالاحترام، وأن النجاح لا يقتنص، بل يبنى بالتعب والمثابرة. كنا جيلا يسير إلى المدرسة مشيا على الأقدام في حر الصيف وبرد الشتاء، نحمل معنا حقائب خفيفة، لكن عقولنا كانت ممتلئة بشغف الفهم، لم نكن نعرف دروسا خصوصية ولا ملازم مختصرة، بل قرأنا الكتب من الغلاف إلى الغلاف، حفظنا، وفهمنا، وكررنا الدروس بلا ملل. نحن جيل (اكتبْ القطعة عشر مرات)، وجيل (قفْ أمام اللوحة وحل المسألة)، فكانت اللوحة لنا مسرحا نعبر فيه عن الثقة، لا ساحة للخوف، كتبنا النشرات الجدارية بأيدينا، واعتلينا منصات الإذاعة المدرسية بأصواتنا، وشاركنا في المسابقات بثقافة ذاتية، وروح نقية، لم نعرف اضطرابا نفسيا من عصا المعلم، ولا اختبأنا خلف مبررات الظروف، كنا نؤمن أن الصبر هو أول الدروس، وأن الشكوى ليست سلاحا، بل العمل هو السبيل، لم نعرف غير حضن أمهاتنا حضنا، ولا غير البيت مأوى، ولا غير صوت الأب مرشدا. دلفنا إلى الفصول بلا هواتف تشتتنا، ولا شكاوى من ثقل المناهج، بل حملنا الكتب مثلما يحمل التاجر كنزه، كتبنا واجباتنا بخطوطنا، ونجحنا بجهودنا؛ لأن المعلم كان هو الدليل، وهو البوصلة. كنا جيلا يتسم بالبساطة، نلعب في الطرقات بثقة، ونحيي الجيران مثلما نحيي أهلينا، وكان الجار أخا، والوطن كان ولا يزال قيمة تحفظ في القلب، نمنا مطمئنين تحت نجوم السماء، نحلم، نضحك، نعبر عن أفكارنا الطفولية الغريبة. كنا نحيي الطائرات بأيدٍ بريئة، ونحترم الجار السابع، وتقاسمنا اللقمة والسر، قرأنا المصحف فقبلناه بخشوع، وتعلمنا أن الكرامة لا تساوم، وأن الصفح قوة قلب لا ضعف موقف. كانت سيرة الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته مدرسة لنا، نتعلم منها من دون ادعاء، التزمنا بنهجه المبين، فترى كثيرا من صفاتنا توارثناها من صبر أمهاتنا، وقوة معلماتنا. على الرغم من اختلاف الزمان وتغير الأدوات، وتبدل الإيقاع، تبقى القيم بوصلة لا تخيب، فلن تعود تلك الأيام، لكن جوهرها خالد، فالهيبة في التواضع، والنجاح في السعي، والحب في العطاء، فأنْ تكون إنسانا نقيا، بسيطا، قويا بمبادئك، محبا بصدقك، ذلك هو النجاح الذي لا ينسى، والميراث الذي يستحق أنْ نورثه، وننقله عبر الأجيال كي تحافظ على المبادئ التي قد تبهت بفعل التقدم والحداثة.