سقوط الجبال

فاطمة رحيم المعيوفي/النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 12

بين أزقة الحي الذي أقطنه، حيث البيوت القديمة بطابعها البسيط، والحياة التي لا تكلف أهلها أكثر مما يملكون، تمتد جدران متآكلة، تحكي في صمتها قصصًا وغصصًا، لكل عابرٍ فيها عبرة، إن نظرت إليها بتمعن، أدركت ما تختزنه من حكايا لأناس لا يملكون الكثير، لكنهم يفيضون ودا ورحمةً، هي لا تخفي ما بداخلها، بل ترويه بهدوء لمن يصغي. بيوت لشدة طهرها تظن أن الملائكة تزورها، كنت أسير بمحاذاة جدرانها في ليلةٍ هادئة، وقد أحدث المطر إيقاعًا موسيقيًا، عزفت على لحنه نوافذ بيوت الحي نغمةً حزينةً، اعتاد سكانها سماعها كل مساء، سرقت تلك النغمة تركيزي لثوانٍ، حتى أفقت متعثرًا بالوحل، فقد كان الزقاق مملوءًا بالحفر، غير أن رائحة التراب والمطر جعلتني أنسى ما حدث لثيابي، وبين خطواتي التي أثقلها الوحل وأعاق تقدمي، حتى تأخرت على موعد الاجتماع المقرر في إحدى الحسينيات لتسجيل أسمائنا في ضمن صفوف كتائب الحشد الشعبي، كان القلق قد راودني بشدة، خشية أن يتركوني مثلما حدث في المرة السابقة، إذ لم يسع المكان جموع المشاركين لكثرتهم بعد أن هبوا استجابةً للفتوى المباركة، كان حدسي يقول إن الأمر سيتكرر، وحدث ما كان في الحسبان حين لمحت سيارتهم تمر من أمامي، فركضت خلفهم بلا وعي ولا شعور، كأن قدمي انفصلتا عني، ناديتهم أن يتوقفوا وأنا أحاول أن ألوح لهم براية كانت بيدي قد خط عليها (يا لثارات الحسين)، تسلل اليأس إلى قلبي حين أيقنت أنني لا أستطيع اللحاق بهم، فجثوت على ركبتي، لا أقوى على شيء وقد أثقلني التعب وخنقني اليأس، وإذا بيدٍ تربت على كتفي، التفت لأجد صديق الطفولة قد جاء هو الآخر يحمل الحنين والنية ذاتها للذهاب. انطلقنا معًا للانضمام إلى صفوف المقاتلين، قطعنا الطريق بعزم لا مثيل له ونحن ندرك تمامًا أنه ذهاب لا رجعة فيه، وفي كل خطوة نخطوها كنا نردد كلمات العزم والثبات، لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا، مستلهمين من كربلاء الصمود والشجاعة، ورفض الرضوخ للباطل، وحين وطئت أقدامنا أرض المعركة، لم نر فيها ساترًا من الحرب، بل رأينا جنة الآخرة، وموعدًا للقاء الله تعالى، وإن كان ما ينتظرنا هناك هو الموت لا شيء سواه، إلا أننا لم نر فيه سوى السعادة، فكلما سقط شهید أيقنا أنه قد سبقنا إلى الجنة، وانتظرنا دورنا في اللحاق به بقلوب مطمئنة، وقفنا أنا وصديقي بعد أن سقط عدد من رفاقنا الشهداء، ممن كانوا معنا في ذات السرية، نتبادل نظراتٍ صامتة، ونتساءل: كيف سيكون مشهد حينا حين تضاف صورنا إلى جدرانه؟ هل ستنير صورنا الطريق للمارين بجانبها مثلما كنت أظن في طفولتي أن الشهداء أنوار تمشي على الأرض؟ فجأةً سقطت قذيفة أصابتني، فأمسك صديقي بيدي باكيًا: يا أخي، إن الموت للأبدان لا للأرواح، أيقن أن صورنا ستمنح المارين شعورًا بالأمان، كأننا نحرس الحي بعيون الشهداء، فإن سقوط الشهداء على الأرض، كهبوط الجبال، عظيم في كل شيء.