النهج النبوي في التربية: أثر القدوة في بناء الإنسان

بيداء حسن العوادي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 6

تعد التربية عمليةً دقيقةً تتجاوز حدود الإرشاد اللفظي والمواعظ النظرية، إذ تهدف إلى غرس القيم، وتشكيل السلوك، وتنمية الوعي بطريقة تؤثر في أعماق النفس البشرية، ومن بين أنجح وسائل التربية وأكثرها فاعلية عبر العصور، تبرز التربية بالقدوة، إذ تقدم أنموذجًا حيا يجسد المبادئ والقيم عمليًا، فترى العيون أثرها، وتتأثر بها القلوب، وتتشكل السلوكيات على نهجها، وأعظم من جسد هذا الأسلوب التربوي هو النبي محمد (صلى الله عليه وآله) الذي مثل في حياته المباركة أكمل صور الهداية الربانية، وقدم للإنسانية كلها أنقى الأمثلة في الأخلاق، والعبادة، والتعامل. لقد أكد القرآن الكريم أهمية القدوة حين قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا) (الأحزاب:21)، فكانت هذه الآية إعلانًا إلهيا عن مكانة النبي (صلى الله عليه وآله) بوصفه الأنموذج التربوي الأعلى، يحتذى به ويتبع في كل جوانب الحياة لمن أراد النجاة والفلاح، وقد تجلت القدوة في كل جانب من جوانب سيرته الشريفة، إذ كان مثالًا للخلق الرفيع، فقال عز من قائل: (وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ) (القلم:4)، فكانت حياته (صلى الله عليه وآله) تجسيدًا فعليًا لمكارم الأخلاق جميعها، من صدق، وأمانة، وصبر، وتسامح، وشجاعة، وتواضع، وغيرها من الكمالات التي لا تحصى، فلم يكن (صلوات الله عليه) يعظ الناس بالأخلاق فحسب، بل كان هو الأخلاق تمشي على الأرض، فعامل الناس بعدل، وسامح من أساء إليه، وواسى المحزون، وأحسن إلى جيرانه، فكان مرآةً صادقةً لما يدعو إليه. وفي تعامله مع الآخرين، مثل أنموذجًا فريدًا في الرحمة والعدل والاحترام، فقد عامل المسلمين وغير المسلمين بخلق عالٍ، فاحترم الكبير، ورحم الصغير، وواسى الضعفاء، وأعان المحتاجين، وتعامل مع اليهود والمشركين بصدق وعهد وعدل، حتى كسب احترامهم، وكان لرفقه وعفوه عن أسرى (بدر)، ومعاملته الحسنة إياهم، أثر بالغ في نفوسهم، مما دفع الكثير منهم إلى اعتناق الإسلام، وما كان ذلك ليحدث لولا ما رأوه في شخصه الكريم من صدق ورحمة لا تنبع إلا من سيد المرسلين. لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) بعيدًا عن المحن والشدائد، بل واجه كثيرًا من الابتلاءات، وصبر على أذى أهل مكة واضطهادهم، وتحمل الحصار، وغيره من الشدائد، فكان (صلى الله عليه وآله) في كل ذلك يعطي درسًا عمليًا للمسلمين في الصبر والثبات على الحق، والإيمان بنصر الله تعالى مهما كانت التحديات، حتى صار صبره نبراسًا يهتدى به في مواجهة المصاعب. أما في جانب العلم والتعليم، فقد كان المعلم الرباني الأول، بلغ رسالات الله سبحانه، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، أسمع الناس كلام الله تعالى وتفسيره، وحث على السؤال، والبحث، والاستشارة، والتأمل، والتفكر، والتعلم، حتى لو استدعى ذلك الهجرة من أجل طلب العلم. إذا أردنا أن ننشئ أجيالًا صالحةً قويةً، فعلينا أن نعي أن التربية بالقدوة ليست مجرد أسلوب، بل هي جوهر العملية التربوية، والنبي (صلى الله عليه وآله) هو القدوة الأعلى التي يمكن أن يقتدي بها المسلم في كل زمان ومكان، ودراسة سيرته الشريفة والاقتداء بسنته من أقوال، وأفعال، هو السبيل الأمثل لغرس القيم في النفوس، وصناعة مجتمعات قائمة على الرحمة والعدل والتقوى، فعلينا أن نلقن أبناءنا حب النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن نعرفهم على سيرته، ونطبق منهجه في بيوتنا وسلوكنا، فبهذا نحيي سنته، ونرسخ معاني الإيمان في الأجيال، ونبني مستقبلًا تسوده القيم وتضيئه الرحمة؛ لأن في القدوة الصالحة يكمن سر بقاء الأمم وارتقائها.