ميلاد حياةٍ
رزحت البشرية تحت نير العبودية لقرون طويلة، واحتشدت الظلمات لتسلبها ضياء المعرفة، وتغرقها في مستنقع الجهل والخرافات، فارتفع أنين الخلق من لظى الرق وغياب العدل والحق، حتى أذن الله تبارك وتعالى لنور النبوة أن يبزغ، ولشمس النور الأول أن تشرق، ولسحابة الخير المتدفق أن ترسل غيثها لتغسل وجه الأرض، وتمحو عذاب أهلها، ولتحرر الإنسان من عبودية الهوى والأوثان، وذل الخضوع للشيطان. ولد النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) حاملًا مفاتيح النجاة، رسول رحمة، وسلام، وحياة، وفي كل عام حين تمر علينا ذكرى ميلاده العطرة، فلابد من أن نولد معها من جديد عبر إحياء سيرته في حياتنا، والاستضاءة بهديه وكلماته النيرة، إذ ليس الاحتفال المطلوب بمولده مناسبة عابرة يكتفى فيها بتعليق الزينة وإطلاق التهاني ونشر البهجة، بل ينبغي أن تكون هذه الذكرى منطلقًا لنعيش صدق الانتماء إليه، وتمام الطاعة لأمره، وحسن السير على نهجه. إن الاحتفال الحقيقي بمناسبة ميلاد النبي (صلى الله عليه وآله) يتمثل بعدة خطوات، منها: - أن نرى الحياة الدنيا مثلما رآها (صلى الله عليه وآله) طريقًا إلى الله جل في علاه، وميدانًا نتسابق فيه إلى رضاه، ومزرعة نغرس فيها ما نحتاج إليه في الحياة الآخرة. - أن نتخلق بأخلاقه، ونغرس بسلوكنا في نفوس أطفالنا سيرته، لا مجرد حكايا تروى، بل منهج حق يتبع، وقبس نور يهدي إلى أطيب منهل، وأصفى منبع. - أن نرفع سلاح العلم؛ لنهدم أبنية الضياع والجهل، ونبني قلاع الفكر والوعي والأمل؛ لنصنع الحاضر، والمستقبل بشكل أجمل. - أن نخرج من رحم أنانيتنا، ونقطع حبال تعلقنا بما يبعدنا عن ربنا سبحانه، ونبينا وأئمتنا (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين). - أن نصرخ بوجه نفسنا الأمارة بالسوء، ونقاوم بهدي النبوة شياطيننا. - أن نمعن النظر في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي تحمل الكثير، ونال من الأذى ما لا يبلغه الوصف والتعبير؛ ليؤدي رسالته، وينقذ من مهاوي الردى أمته، ثم نجعل سيرته وعظيم تضحياته أمامنا قبل أن نقول أو نفعل شيئًا، ونسأل أنفسنا: هل يرضيه ذلك؟ أيسره فعلنا؟ أم يؤلم قلبه المبارك؟ لنقرر بعدها: هل نمضي أو نحجم، فعن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: "ما لكم تسوؤن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال رجل: كيف نسوؤه؟ فقال: "أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله، وسروه"(1). فطوبى لمن جعل ذكرى ولادة النبي (صلى الله عليه وآله) ولادةً جديدةً لروحه التي ستحيا بنهجه القويم، وتسير على دربه ما دام فيها نفس يتردد. .............................. (1) الكافي: ج1، ص219.