جعفرٌ نهرٌ في الجنة
أنت يا جعفر فوق المدح والمدح عناء إنما الأشراف أرض ولهم أنت سماء جاز حد المدح من قد ولدته الأنبياء(1) كذا قال الشاعر في سيد قريشٍ وبني هاشم، وسيد ولد علي والحسين (عليهما السلام): جعفر بن محمد الصادق (عليه أفضل الصلاة والسلام). والمدح مذموم إذا جاوز الحد وبالغ في أوصاف الممدوح، لكنه في مدح جعفر (عليه السلام) لم يكد يتجاوز المرتبة الدنيا، فما قيل فيه قليل! وكيف لا يكون فوق المدح من آباؤه خمسة أئمةٍ معصومين، وجده نبي الله، وهو سيد العرب والعجم علمًا وفضلًا وتقىً وورعًا، معلم المعلمين، وسيد أهل الأرض والسماء، من قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسموه: الصادق"(2)، ولم يزد الشاعر شيئًا حين قال إنه سماء للشرف، فهو ليس من أهل بيت العصمة فحسب، بل هو كاشف الغمة، وحري بمن ولد في حضن الإمامة ورضع لبن الشهامة أن يكون كذلك وأكثر. إن المتأمل في تفاصيل حياة الأئمة (عليهم السلام) يقرأ بين سطور أيامهم ولياليهم أكثر مما يقرأ في تلك السطور من الفضل وخير العمل، وكذا يكون الحال حين نقرأ لمحاتٍ سراعًا من حياة إمامنا السادس جعفر بن محمد (عليه السلام) نستشف منها بعض معالم كماله، من مبدئه إلى منتهاه، إن كان إلى منتهى ذلك الكمال سبيل. أما ولادته المباركة، فهي مستهل ذلك الخير العميم، إذ يروي الثقات أن مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) تشرفت بإطلالة نوره الملكوتي، في اليوم الذي تشرفت فيه مكة المكرمة بولادة سيد الخلق محمد (صلى الله عليه وآله) قبل ذلك التاريخ بنحو مئةٍ وثلاثين عامًا، فقد كانت ولادته في السابع عشر من ربيع الأول للعام (80هـ)، أما ولادة النبي (صلى الله عليه وآله) فكانت قبل الهجرة بخمسين عامًا في اليوم نفسه. نحن لا نؤمن بالصدف، فما حدث لم يكن اتفاقًا، بل تدبيرٌ إلهي محكم، إذ جعل الباري (عز وجل) من ذلك اليوم الأغر من أيام ربيع الأول العطر، موعدًا لميلاد سيد البشرية، وحفيده محيي دينه وواضع أسس ومعالم الفرقة الناجية، وهي حكمةٌ واضحةٌ بالغة. ومثلما هو معروف ومتوقع، فإن السيدة المبجلة التي أراد لها الباري أن تكون أما ووالدةً لهذا الإمام العظيم، قد تم اختيارها بعناية، شأنها شأن كل أمهات المعصومين، فهي السيدة فاطمة أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، فقيه المدينة وأحد أبرز أعلامها، وأحد أكابر أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، على أن بعض المميز في صفاتها، خلا التقى والورع والصلاح، أنها كانت عربيةً لا أعجمية، وهي في هذا تكون رابعة الفواطم من أمهات الأئمة (عليهم السلام)، بعد فاطمة بنت أسد (عليها السلام) أم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام) أم الحسنين (عليهما السلام)، وفاطمة بنت الإمام الحسن (عليه السلام) أم الإمام الباقر (عليه السلام)، أما أمهات الأئمة الباقين، فمن اللافت أنهن جميعًا كن غير عربيات، وفي هذا حكمة خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، ولعل استجلاء مكنونها متعذرٌ في هذه العجالة، فنتركه لمقالةٍ أخرى. ويكفينا معرفةً بفضل هذه المرأة المباركة التي شرفها الله بحمل إمامنا ومقتدانا الصادق (عليه السلام)، شهادة الإمام الصادق (عليه السلام) نفسه بحقها، وهي لعمري أبلغ الشهادات: "كانت أمي ممن آمنت واتقت وأحسنت، والله يحب المحسنين"(3)، وهي إشارة إلى أنها حازت صفات المتقين الذين وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في جوابه لهمام بن عبادة، إذ قال له: "اتق الله وأحسن، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"(4)، وقد قال العلماء في شرح هذا القول: (كأن المراد بالتقوى اجتناب ما نهى الله عنه، وبالإحسان الإتيان بكل ما أمر الله به، وهذه الكلمة جامعة لصفات المتقين وفضائلهم)(5)، بل إن الإمام الصادق (عليه السلام) وهو من هو في نسبه العظيم الذي لا يرقى إليه نسب، كان يكنى أحيانًا بـ(ابن المكرمة)، للدلالة على فضل والدته العظيمة وجلالة قدرها، وهي فضيلةٌ أخرى تضاف إلى فضائلها الجمة. فالسلام على إمامنا صادق العترة، وعلى أمه فاطمة الطاهرة، وعلى آبائه الخمسة وأولاده الستة، الذين يتوسطهم توسط الكوكب الدري للكواكب الزاهرة، لا تدري أيها أشد ضياءً وأعمق أثرًا. والحمد لله الذي أكرمنا بولاية علي (عليه السلام)، وقرن تلك الولاية الإلهية بالانتساب إلى عالم آل محمد وابن باقر علمهم، وميزنا باسمه الشريف، عسانا نكون ممن ينهل من علمه ويرتوي من فضله. أو ليس قد جاء عن الإمام الكاظم أبي الحسن موسى (عليه السلام) أنه قال: "قال لي أبي: إن في الجنة نهرًا يقال له جعفر، على شاطئه الأيمن درة بيضاء، فيها ألف قصر، في كل قصر ألف قصر لمحمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله)"(6)؟! فها قد تدفق عطاء جعفر إلى دار الدنيا؛ ليغدو بينها وبين الآخرة حبلًا موصولًا، من تمسك به ارتقى إليها، ومن تخلف عنه تهاوى ولم يدرك أبواب الهداية. ............... (1) الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ص ١٦٤. (2) الاحتجاج: ج٢، ص٤٩. (3) الكافي: ج١، ص٤٧٢. (4) بحار الأنوار: ج٦٤، ص٣١٥. (5) منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل: ج٢، ص١٦٠. (6) شرح أصول الكافي: ج١٢، ص ١٦٤.