صدقةٌ خفيةٌ

هدى نصر المفرجيّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 6

يمر وقت الظهيرة بتثاقل، حتى تبدأ الشمس تلم خيوطها لتعلن أمي عن حريتنا، فلا ندرك أي قدم تسبق الأخرى إلى بيت جدي، إلى حيث الرائحة المألوفة التي تعانق الهواء كالريحان الطازج، وجدي بيديه المجعدتين من تعرجات الزمن، يروي الجدران العطشى بماءٍ يبدو كالندى في صباحات الذكرى، فنشمها نحن الأحفاد، شهيقًا عميقًا يملأ الصدور، فنعلم أن الرائحة ناقوس يخبرنا أنه حان وقت الدفء، وقرقعة أكواب الشاي التي تنادي باللقاء. نشرب الشاي على الرغم من امتلائنا، فلا أحد يرد يد جدي الكريمة، ثم يأتي دور المشهد المعتاد: أخي وهو الحفيد المفضل، ينحني كالظل الوفي عند أذن جدي، فتنفجر قهقهاتهما كالرعد، ونحن البقية نغلي بغيرة صامتة، فيجتاحني إحساس غريب، وإرادة عنيدة تدفعني كالتيار لأعرف ما السر الذي يخصه وحده؟ وبعد (11) عامًا على رحيل جدي، صعقتني رائحة الجدران، واستعدت تلك الذكرى، فسألت أخي: ما كان السر الذي يخبرك به جدنا؟ ضحك ضحكته المعهودة، لكن رافقتها دمعة هذه المرة، وقال: لا شيء، كان يهمس لي: اضحك بقوة لتثير فضولهم، ثم يكرر حكاية حمار جحا ذاتها التي يعرفها الجميع. صعقت مما أسمع، فكيف كان يمثل أخي الضحك كأنه يسمع أعجوبة، واستذكرت المشهد بعيون جديدة، فلم أعد أرى الضحكات، بل رأيت يد جدي التي ترتجف عندما يمسك بكوب الشاي وهو يرجعه إلى الأرض، وتجاعيد عينيه كأخاديد من الألم، في ذلك الارتجاف الذي أخفاه تحت ضحكه، سقط القناع، إذ لم يكن السر في الحكاية، بل في النية، فجدي كان يشعل شمعة فرح في ظلام همومه، كان يمنحنا عن طريق أخي صدقة الضحك، وبذل روحه ليذيب ثقل الحياة عنا، فتذكرت الحديث الشريف: "تبسمك في وجه أخيك صدقةٌ"(1). دمعة دافقة انسابت من عيني، لكن لم تكن من الغيرة، بل لإدراك أن جدي اختار أخي ليكون صندوقًا لصدقته الذهبية، وهمساته هي الدراهم، بينما ضحكاتنا كانت البركة المتدفقة، فراودني شعور بالحب العارم تجاه جدي، ونظرت إلى صورته في ذاكرتي وهو يربت على كتف أخي الضاحك، ثم يلتفت إلينا جميعًا بنظرة شاملة، كأنه يسقي أرواحنا مثلما يسقي الجدران، وفي عينيه لم أعد أرى التفضيل، بل رأيت فنانًا يصوغ الفرح من لا شيء، ورأيت رجلًا يمنح أغلى ما عنده لرغبته في أن نكون سعداء، نهضت وأنا أردد: اللهم اجعلها في ميزان حسناته، وتعلمت يومها أن أعظم صدقة هي أن تخلق ضحكة في قلب من تحب. ................................. (1) ميزان الحكمة: ج2، ص1597.