نيران صامتة

خلود ابراهيم البياتي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 9

كثيرًا ما كنتُ أدعو إلى القراءة التدبّرية، أي أنْ نتوقّف لبرهة من الزمن عند قراءة أيّ نصّ، أو عند الاستماع لأيّ جملة ترد على مسامعنا، وأنْ نضع علامة استفهام بعدها؛ لنصل إلى الهدف والمغزى، ومن هذا الباب استوقفتني عبارة قصيرة، قليلة الكلمات للإمام السّجاد (عليه السلام) في مناجاة المطيعين حين قال: "اللهمّ إنّا نعوذ بكَ من الشكوك والظنون، فإنّها لواقح الفتن..."(1)، كأن في هذه اللحظة قد مرّ أمام عيني شريط كامل من الأحداث التي تدور في وقتنا الحاضر، وما تَنبّئ بها عن المستقبل. نعيش في زمان اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبحنا لا نصدّق حتى ما نراه بأمّ أعيننا بعد أنْ انتشر ما يسمّى بـ(الذكاء الاصطناعي)، إذ صار من الصعب التمييز بين الحقيقة والزيف، وبين الخيال والواقع، وصرنا في وسط دوّامة من الشائعات التي تغذّيها المصالح الشخصية لكلّ طرف على حساب الآخر، فليست كلّ الحروب تكون بالأسلحة الاعتيادية، بل الأخطر والأدهى هي حروب المعلومات المضلّلة التي تنشر الخوف والتوتّر والقلق المستمرّ، ومن ثمّ الشكّ بكلّ حركة أو كلمة من المحيط. فكلمات الإمام زين العابدين (عليه السلام) التي تصف الشكوك بأنّها لواقح الفتن، كأنّها تشير إلى تلك النيران الصامتة التي تنهش في المجتمع بدون أنْ تُظهر صوتًا أو ضجيجًا، فالشكّ يتسلّل إلى زوايا النفس المظلمة، إلى حيث تتراكم الهواجس، فتُولد الفتن غير محتاجة إلى صخب السيوف، أو طبول الحروب، بل إلى مجرّد كلمات بسيطة يُهمس بها في أذن شخص ما؛ لتنطلق منها مشاعر الخوف فتهتزّ أركان الطمأنينة، ثم تسقط القلوب من عليائها. كان ذلك نداءً تربويًّا بليغًا، يحمل في طيّاته العديد من الرسائل إلى مجتمع أفضل حين نقرأ بوعي وتدبّر، فتلك الكلمات رفعت الستار عن النار الصامتة، وأظهرت لنا كلّ ما خفي منها؛ لأنّ الفتنة لا تُولد بين الناس فجأة، بل تنشأ من شرارة في النفوس، تبدأ بشكٍّ أو ظنٍّ سيّئ؛ لذلك يجب أنْ يُرجع إلى المصدر الرئيس لأيّ خبر أو جملة سمعناها؛ لنأخذ الحقيقة منه بدون أيّ ترويج لما نسمعه أو نراه، فالعالم الآن يعجّ بمَن يعتاشون على إشاعة الخوف والتوتّر بين الناس، فهو مصدر بقائهم، ويجب أنْ تحدّد كلٌّ منّا بوصلة حياتها، وتختار الطريق الذي تروم الوصول إليه، ولا تدع الآخرين يأخذون زمام أمورها، فلا تكون من ضمن خُططهم، بل هي مَن تخطّط للوصول إلى نور اليقين الذي لا يخفت أبدًا، فنُطفئ نيران لواقح الفتن قبل أنْ تمتدّ إلى ما حولنا. ......................... (1) مفاتيح الجنان: ص 165.