عالم الغيب والشهادة في البناء العقائدي القرآني

عبير المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 14

إنّ عالم الغيب وعالم الشهادة يمثّلان محورًا أساسيًا في الفهم القرآني للعقيدة، فهما ليسا عالمينِ منفصلينِ عن بعضهما، بل مرتبطان ارتباطًا جوهريًا يُبنى عليه الإيمان والعمل. إنّ القرآن الكريم يربط بين عالمينِ متوازيين في حياة الإنسان، (عالم الشهادة) وهو ما نراه ونلمسه بحواسّنا، و(عالم الغيب)، وهو ما لا ندركه بالحواسّ، لكنّنا نؤمن به بالعقل والنقل، والتوازن بين هذينِ العالمينِ يُنتج عقيدة راسخة، وروحًا متّصلة بالسماء، وعقلًا متّزنًا على الأرض؛ لأنّ المؤمن الحقيقي يعيش بين هذينِ العالمين، لا يغرق في المحسوسات، ولا ينعزل عن الواقع، بخاصّة في وقتنا الحاضر الذي ألغتْ فيه المادّية المعاصرة الأمور الغيبية، ففُقدت الروحانية، وظهرت الأزمات الوجودية، أمّا الأفكار الإيمانية فلا تلغي عالم الشهادة، بل تنقّيه، ولا تغيب في عالم الغيب بل تُهذّبه. والتربية القرآنية قد جمعت بين عالميْ الغيب والشهادة في الكثير من أبعاد حياتنا، منها: - في الصلاة، إذ نصلّي للخالق الذي لا تدركه الأبصار. - في الصوم عندما نمتنع عن المفطرات من دون رقيب إلاّ الله تعالى. - في الزكاة، نعطي المال ونعلم أنّ الأجر في الآخرة. - في العقائد عن طريق التوازن بين الإيمان بما لا يُرى، والعمل بما يُرى. - في النفس عن طريق تهذيب القلب ليؤمن بالغيب من دون الانفصال عن الواقع. - في المجتمع عن طريق بناء مجتمع يرى العدالة الإلهية الغيبية، ويمارسها في الواقع. كلّ هذا يعزّز من الاعتقاد بالغيب في عالم الشهادة، فمَن لا يؤمن بالغيب يُحبس في سجن المادّة، ويفقد الرؤية الواسعة، والمؤمن يعيش ببصيرتين: بصيرة ترى الدنيا، وبصيرة تُبصر ثواب الآخرة وعقابها، وهذا هو الإنسان المتكامل الذي ينشده القرآن؛ لأنّ الغيب يربط الإنسان بالله تعالى والآخرة، ويحرّره من التعلّق المادّي الضيّق، ويحفّزه على العمل الصالح والتقوى في عالم الشهادة. إنّ قضية الغيب والشهادة في القرآن الكريم ليست تناقضًا، بل تكامل، مثلما أنّها دعوة إلى الإيمان العميق، والوعي الكامل، إذ لا حياة للإنسان إلّا بهذا الإيمان المتوازن الذي يربط بين ما نراه وما نؤمن به، وبين الظاهر والباطن، وبين الدنيا والآخرة. آثار الإيمان بالغيب والشهادة: 1ـ الوعي الكامل عن طريق الربط بين الروح والمادّة، فالمؤمن لا يعيش في عالم مادّي بحت (الشهادة)، ولا في عالم روحي مجرّد (الغيب)، بل يجمع بين الاثنين، وهذا الوعي يعزّز من توازن الفرد النفسي والعقلي، فلا ينفصل عن واقعه، ولا يغيب في خيالات غير واقعية. 2ـ الثبات والصبر في مواجهة التحدّيات؛ لأنّ الإيمان بالغيب يعني الإيمان بالعدل الإلهي، والحساب، والثواب، والعقاب، والنصر النهائي للحقّ، وهذا يدعم الصبر ويقوي القدرة على التحمّل في مواجهة الابتلاءات، ويمنع اليأس. 3ـ الفهم الحقيقي للغيب لا ينفي العمل والجهد في الواقع (عالم الشهادة) ، بل يُحمّل الإنسان مسؤولية اختيار الطريق الصحيح، فالمؤمن يرى أنّ أفعاله في هذا العالم لها أثر أبدي، لتصبح أفعاله محسوبة ومدروسة فيه. 4- توظيف العقل والنقل معًا؛ لأنّ هذه الجدلية تدعو إلى استخدام العقل (الشهادة) لفهم النصوص الشرعية والمعارف الغيبية، ولا يقبل العقيدة فقط بالنقل، أو بالتقليد الأعمى، بل بالتدبّر والاجتهاد، ممّا يبني شخصية واعية مستقلّة. 5ـ الأمل والطمأنينة وَسط الفوضى، فالإيمان بالغيب يمنح المؤمن أملًا بنصر الله تعالى وتحقيق العدالة، مهما كان الظلم ظاهرًا، وهذا الأمل يمنح طمأنينة نفسية تقي من اليأس والانهزامية. 6ـ الموازنة بين الجهاد الداخلي والخارجي، فالإيمان بالغيب يدفع الفرد إلى المجاهدة الروحية والباطنية (القلوب والعقول) ، والشهادة تدعو إلى الجهاد العملي في المجتمع لنصرة الحقّ والعدل. 7ـ المرونة في مواجهة المتغيّرات، لأنّ فهم هذه الجدلية يسمح للمؤمن بالتعامل مع الحياة بواقعية ومرونة، بلا تطرّف أو تشدّد، فيقبل التغيّرات في الواقع لكنّه لا يتخلّى عن الثوابت الإيمانية. 8ـ تربية النفس على الاتّزان؛ لأنّ هذه الجدلية تعزّز من الاتّزان بين الخوف من العقاب، والرجاء في رحمة الله تعالى، وتخرج النفس من التطرّف بين اليأس والقنوط، أو الغلو والاندفاع الأعمى. يتبيّن لنا بوضوح أنّ فهم جدلية (الغيب والشهادة) هو حجر الأساس في بناء شخصية مؤمنة متّزنة، واعية، صابرة، مسؤولة، ومرنة، هذا الفهم يخلق الإنسان الذي يستطيع أنْ يعيش الحياة بكلّ تحدّياتها بثقة وعزم، مؤمنًا أنّ وجوده في هذا العالم له معنى عميق يتجاوز الظاهر إلى ما وراءه.