الرصاصة التي صنعت الورد

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 36

لم تكن (زهراء) قد أتمّت عامها الثامن بعدُ، وقد اعتادت أنْ تلتقي عيناها بعيني والدها كلّ صباح، تراقب خوذته وسلاحه بشغف الطفلة المتعلّقة بالبطل، بينما ترصد وجه أمّها الصابرة وهي تودّعه عند عتبة الباب بدموع صامتة وإبريق ماء تسكبه خلفه تبعًا لعادةٍ قديمةٍ، تبعًا لعادةٍ ترمز إلى حفظ المسافر ورجوعه إلى أهله سالمًا. في تلك الأيام الثقيلة التي تعقب رحيل الوالد، يخيّم السكون على البيت، وتشيح الحياة بوجهها عن أفراد العائلة حتى (عليّ)، ذلك الطفل الشقي الذي لا يكلّ عن مشاكسته، يصبح أكثر هدوءًا، كأنّما يقول في صمته: (لا حياة من دون أبي). كانت الأمّ تتابع الأخبار بحذر وتوجّس، تنصت لآخر المستجدّات، وتزور بعض العوائل التي التحق رجالها إلى جانب زوجها بكوكبة الحشد المقدّس، وكانت تغمرها فرحة خفيّة كلّما سمعت بانتصارات أولئك الأبطال، وتصدّيهم لعصابات (داعش)، وعودتهم أحياء أو شهداء في ثياب المجد. أمّا (زهراء)، الطفلة الأنيسة، فكانت تبكي شوقًا إلى والدها في الخفاء، تخفي دموعها بكمّ ثوبها الفضفاض، وتتذكّر آخر قبلة طبعها والدها على خدّها وهو يقول: "لأجل الوطن الغالي سأترككِ يا بنيّتي؛ لأنّي توضّأتُ بماء حبّه والإخلاص له." وفي صباحات المدرسة، اعتادت أن تصنع وردة ورقية بلون مختلف كلّ يوم، وتكتب عليها جملة صغيرة موجعة: "أبي، تمنّيتُ أنْ أرى ابتسامِتكَ وأنتَ تراني أقرأ وأتعلّم، أبي حلمتُ أنّكَ تسير معي يوم تخرّجي، أبي ارجع كي أهديكَ شهادة تفوّقي ونجاحي." وحين زُفَّ خبر استشهاد والدها في معركة تحرير (بيجي)، سارعت معلّماتها إلى جمع الورود الورقية التي صنعتها (زهراء)، وافتتحنَ معرضًا صغيرًا بعنوان (أحلام الشهداء لا تموت)، وحضرت العوائل ذلك اليوم، ووقف الجميع أمام ورود (زهراء)، فقد سكت الكلام، وخيّم الصمت، إلّا قلب العراق، فقد خفق طويلًا.