نبوءة الضوء في زمن الحصار
في آخر انعطافات الزمان قبل ابتداء عصر الغَيبة، وُلد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) على مشارف (طيبة)، كان مجيئه حدثًا عظيمًا في التاريخ، نبوءة من نور النبوّة. كان المدى يختنق تحت ثقل المراقبة، والعيون تترصّد ولادته، فمنه يأتي الموعود.. جاء إلى الحياة والفسحة فيها مكبّلة، والعتمة تحتلّ المدى، فلا يفيض النور إلّا من بين أصابعه، يرتّل الصمت في عينيه تراتيل الغيب القادم.. كان ميلاده في زمن الخوف، أربك الطغيان كثيرًا، بينما السماء تكتب أنّ للقيادة وجهًا آخر لا يُقهر، فهو الغارق في ذات الله (عزّ وجلّ). النبوءة تقول: إنّه مَن اختارته يد العناية الإلهية ليكون أبًا لخاتم الأوصياء، يهيّئ منه الله سبحانه غائبًا ينقذ العالم.. فذّ من بيت النبوّة، مذ جاء ساجدًا وهو يعلم أنّ كلّ ساعة من عمره الشريف مرصودة، وكلّ خطوة ملاحقة، غلقوا من حوله نوافذ الحياة، فشرّع للحياة أبوابًا لم تُفتح منذ بدء الخليقة، فهو الجسر بين تجلّي النبوّة وظهور المخلّص، ضوء من السلسلة الطاهرة من الحجج الأبرار.. أعدَّ الساحة لمَن يُبعث من عمق الرجاء، ويشقّ ليل الدهور المنتظرة.. عاش عمره القصير عالمًا بوظيفته في هذا الكون، يربّي القلوب لتشتاق إلى الحضور.. ناسكًا ممسكًا بزمام الحقيقة، فعلمه امتداد لصوت النبوّة الأول: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (النجم:3،4)، يحدّث في التفسير، فتقف المعاني بين يديه خاشعة. ما بين حاكم مستكبر وسؤال حائر من زنادقة العقول، كان يجيب عن المعضلات.. فتح نوافذ المعنى على مشارف الدهشة، فالعلم عنده سماوي بلا وسيط، فكان المشعل إذا انطفأت المصابيح، واليقين إذا ارتبكت العقول، والمحراب الذي يلجأ إليه الكون ليستقرّ.. كلّما ضيّقوا عليه، وسّع الله له في المعنى، كراماته إشارات من الغيب تشي بأنّ هذا المحجوز منطلق مشدود إلى السماء.. تهتزّ القلوب إنْ دعا، وتبرأ الأجساد إنْ مسّها عطر يقينه، وإذا أشار بيده خضعت الأقدار، وإذا تبسّم انفرج الغيب، وإذا صمت سُمع الدعاء وهو يسير في طرقات السماء مستجابًا، الكرامة عنده طاعة للحقّ، ويكفيه أنْ يمشي؛ لتمشي معه إرادة الله سبحانه.. حين ضاق الزمن عليه، وسُدّت الأبواب، علم أنّ النور يتهيّأ لحضور الغَيبة، وأنّه متحرّر من بين فكّ القيد إلى فلك الخلود، فراح يزرع فيها بذور الثبات، يرسم بخطّه للسفراء رسائل الخلاص، ويمهّد بفكره لعصر يغيب عنه القائد، ويبقى أثره في كلّ شهقة رجاء، وفي كلّ دعاء (عهد). يغيب في الحضور الأبدي، وتبقى الحقيقة مشرقة في محاريب الصبر. هكذا كان النور الحادي عشر في سجلّ الزمان: تجليًّا راقيًا لمعادلة الخلود في وجه الفناء، وانبثاقًا سرمديًا للمعنى في قلب الحصار. اختبر الزمان كأنّما يختبر الحقيقة في أقصى حدودها، فكان شاهدًا على أنّ النور يشتدّ لمعانًا حين يُضيّق عليه، يتكثّف حتى يخرق الغيب، ويصير أفقًا للحضور، يهدي وينقذ. حين حلّق للعلياء حلّق في وعيٍ تسامى في مدار السرّ الإلهي، تاركًا لنا بصمة بلاغة لا تُضاهى، وفلسفة غياب وظهور لا تيه فيها، تُبقي على الأمل حيًّا بصبر الأنبياء، وحكمة الأوصياء، حتى يبلغ العالم نضجه، ويتهيّأ لاستقبال آخر أوصياء السماء..