أول شاهد
أي بابٍ أنتَ؟ نقشت عليكَ أنفاس النبوة حروف النور، وخطت أنامل الرسول مواثيق الطهارة، وشهدت عندكَ القلوب بالولاية، تُرى هل عرف التاريخ بابًا مثلكَ؟ انتصبتَ في فضاء الكون شاهدًا على صوت النبي (صلى الله عليه وآله) المجلجل، يقول عند كل صلاة: "الصلاة أهل البيت، إنمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهرَكُمْ تَطْهِيرًا"(1)، واعتكفتَ في المدى تتآكل ذراتكَ أسفًا وخزيًا، وأنتَ تشهد بعد يد النبي (صلى الله عليه وآله) التي أنطقتَ جمادكَ، يد الطاغوت وهو يقرع حدادكَ، ويكوم الحطب ويشعل النار عند أعتابكَ. أيْ بابُ بيتِ النبوة! أي شاهدٍ أنتَ وأي شهيد؟! هل استطعتَ بعدما حلت على وجودكَ بركة نبي الرحمة، ولامست أنحاءكَ كفه الكريمة، وأطعتَ أمره وأرخيتَ ستره، أنْ تخذل سيدة نساء العالمين فلا تكون لها نِعم المعين؟! كلا وألف كلا، بل إني لأرى تطاير الشَرَر من حولكَ، وتصاعد أنفاس الغضب من القوم الظالمين، وهم يرون وقوفكَ دون بنت محمد (صلى الله عليه وآله) تخفيها عن عيون الناظرين، وتنقل صوتها المذكر المقرع إليهم، حتى إذا هددوا بحرق الدار قال بعضهم للرجل: إن فيها فاطمة! فأجاب بصفاقة وجرأةٍ على الله ورسوله: (وإنْ...)! ويح النفاق في الصدور ما أعمقه، وويح الكفر حين يتجلى في المواقف الحاسمة ما أنطقه! هي الفتنة التي وصفتها لكم بنت النبي (صلوات الله عليهما)، تقول: "فَدُونَكُمُوها فَاحْتَقِبُوها دَبِرَةَ الظهْرِ، نَقِبَةَ الْخُف، باقِيَةَ الْعارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ وَشَنارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بِنارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ التِي تَطلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، فَبعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلُونَ وَسَيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَي مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ، فَاعْمَلُوا إنا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إنا مُنْتَظِرُونَ"(2). إيهٍ يا باب التاريخ! لقد وقفت خلفكَ سيدة النساء، فاتخذكَ المضلون من حيث لا تدري وسيلةً للإيذاء، هي ذي الحبيبة تنطرح فوق الحصباء مكسورة الضلع تعاني آلام الوضع، وقد أسقط جنينها (المحسن) بذاك الدفع، وراحت تلهج وتنادي؛ لتخترق صرختها أعماق التاريخ، معلنةً بدء مظلومية (أم أبيها) وترابه المقدس لم يجف بعدُ., أفنعجب بعد كل هذا أنْ يستمر الظلم ويتغلغل من قبلُ ومن بعدُ، وأنْ يضرب الخارجي رأس الأمير في صلاته، وتسمم الكندية زوجها الحسن السبط الزكي في صيامه، وتحز جيوش بني أمية رأس الحسين السبط الشهيد وهو يطلب الإصلاح في أمة جده؟ أيها الباب العزيز، ما أذلتكَ يدٌ بعد رِفعتكَ، وما تركت دماء بنت النبي (صلى الله عليه وآله) عليكَ آثارها عبثًا، فلأنتَ أول شاهد على أول شهيدةٍ على درب الإمامة، وعلى شهادة مَن تلاها من بنيها؛ ليكونوا جميعًا للصبر علامة، ولتبقى أمة الشهداء تقف خلف أبواب الطواغيت، تقرع بكلمة الحق أسماعهم، ودنياهم، وجيوشهم، وتخترق حصونهم المهترئة، وتنتظر مع نسائم الفجر تباشير النصر، وتمهد باليُسر بعد العُسر لفرج صاحب الأمر (عجل الله فرجه الشريف)، الآخذ بثأر جدته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وثأر كل مظلومٍ أردته سقيفة الخيانة، وحالت دون أنْ يحكم بالعدل صاحب الأمانة، فكانت يد الشيطان الضاربة في الأرض، وهي بإذن الله مغلولةٌ مهما طغى وبغى وتجبر في الطول والعرض، فالله متم نوره ولو كره الكافرون، يورث الأرض مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. ................................. (1) بحار الأنوار: ج35، ص227. (2) الاحتجاج: ج1، ص141.