بين زهرتين

زينب عبد الله العارضي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 14

المدينة المنورة: مهبط الوحي ومختلف الملائكة، ومسقط رأس الذوات المباركة، إلا أنها في عين الفاقدة للأحبة دار غربة، تشتعل لياليها بالدموع الحارقة، وتجعل من جِنانها أرضًا جدبة. هكذا كانت في عين مولاتنا فاطمة المعصومة (عليها السلام) التي تجرعت من الآلام ما لا يمكن أنْ تصوره الأقلام، فقد حُرمت من وجود والدها في طفولتها، وقاست ألم اليتم أول حياتها، ثم تجرعت مرارة رحيل أخيها وإمام زمانها الرضا (عليه السلام)؛ لذلك قررت أنْ تلتحق به، وتسافر إليه مثلما يسافر الطير المجروح إلى مَن يداويه، ويأمل الشفاء من آلامه بين يديه، إذ لم تستطع البقاء في أرض تخلو من حضرته، ولم تتحمل شروق صبح لا تَشهَد فيه بهاء أنوار وجهه. لم تكن هجرتها إلا زحف قلب انسل من بين الأضلاع وهو يحث الخُطى خلف طيف إمام مغيب، وكم يذكرنا اسمها باسم جدتها بضعة المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ولا عجب، فالسيدة المعصومة (عليها السلام) امتداد لجدتها الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، كلاهما عاشتا ألم الغربة ومرارة فقد الأحبة، الأولى أم أبيها، والثانية أم أخيها، فبنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كُسر ضلعها ذودًا عن الإسلام ودفاعًا عن حق ولي الأمر، والأخرى انكسر قلبها شوقًا إلى لقاء أخيها الذي أقصاه طاغوت ذلك العصر. سيدة ذوت بعد رحيل خاتم الأنبياء، وغصب حق سيد الأوصياء، وسيدة ذابت شوقًا إلى بهاء تلك الطلعة الغراء لإمام زمانها وأخيها الغريب في دار الغرباء. وبين الفاطمتين يقف المحبون لذرف دمعتين، إحداهما على المجهولة قَبْرًا، بعد أن مضت عن الدنيا شهيدة في زهرة عمرها وربيع أيامها، وأخرى على الزهرة التي ذبلت في طريق رحلتها نحو إمام زمانها. فيا مَن وُفقتِ لزيارة السيدة المعصومة (عليها السلام): قِفي عند الضريح مسلمةً على جدتها سيدة النساء، متفكرةً فيما جرى عليها، متأملةً كيف اختنق الورد بين ضلوعها، وانطفأت شعلة الحياة في بدنها، ثم سلمي على سَميتها التي سارت على دربها، مستحضرةً ما كابدته من الألم في سبيل إمام زمانها، متأملةً في حالكِ وعلاقتكِ بدينكِ وإمام زمانكِ، متسائلةً: تُرى ماذا قدمتُ لديني وآخرتي؟ كيف برهنتُ على حبي ومودتي؟ أتُراني وُفقتُ أم أخفقتُ؟ ثم شمري عن ساعد الجد؛ لتقتربي من رياض المعرفة، والطاعة، والود، وليكن دعاؤكِ: "اللهم فثبتني على دينكَ، واستعملني بطاعتكَ، ولين قلبي لولي أمركَ... واجعلنا ممن تقر عينه برؤيته، وأقمنا بخدمته، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته"(1). ........... (1) مفاتيح الجنان: ص587.