هل يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مرب بديل؟
لم يعدْ في الذكاء الاصطناعي رفاهيةٌ معرفيةٌ أو أداةٌ نخبويةٌ، بل صار جزءًا من تفاصيل حياتنا اليومية، تبرز تساؤلات ملحة بشأن تأثيره في عقل الطفل الذي يعيش بين مفترق الطرق: بين تراث غني بالأصالة، وبين تيارات معرفية رقمية هائلة وغير منقحة. ذات يوم فُوجئتُ بابني ذي الأعوام السبعة يتحاور مطولًا مع طرف غير مرئي، فاقتربتُ لأجد أن المحاور ليس سوى برنامج الذكاء الاصطناعي التفاعلي، كان يجيبه بدقة عن كل ما يخطر بباله من أسئلة: في الفقه، والسيرة، والعقيدة، ومعلومات عن الحيوانات والكواكب، بل حتى نصائح حياتية، وقصص ترفيهية، ولم تكن المشكلة في أنْ يسأل، بل في أنه كان يسلم بما يسمع، ويعمم الإجابات، ثم يحاول نقلها بحماس إلى أقرانه، غير مدرك لتفاوت المذاهب، وتعدد الآراء، واختلاف السياقات العلمية والدينية. هذه التجربة العابرة دقت ناقوس الخطر لدي، فالطفل بطبيعته يبحث عن الإجابات أكثر مما يبحث عن الأسئلة، وإذا وجد مَن يجيبه من دون توجيه أو مساءلة، فقد يصبح مأسورًا لهذا المصدر السهل والسريع، بل يفضله على الحوار البشري المليء بالتردد، أو التأجيل، أو الاختزال. من هنا، كان لابد من وقفة: فهل يمكن أنْ يتحول الذكاء الاصطناعي إلى مرب بديل؟ وهل أطفالنا مستعدون فكريًا ونفسيًا لاستيعاب هذا الحجم من البيانات؟ أول ما قمتُ به حيال ذلك الموقف هو أني أخذتُ الجهاز اللوحي من ابني، ثم فكرتُ بإعادة صياغة البيئة المعرفية داخل المنزل، لا عن طريق الحظر والمنع، بل بإعادة تقديم المعلومة على هيئة قصة، أو تجربة، أو تساؤل وحوار مفتوح في أوقات معينة أرى فيها طفلي مستعدا، فبدأتُ أغذي عقله بأساليب تربوية قائمة على الإثارة لا التلقين، وعلى المشاركة لا التوجيه. الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا، لكنه لم ينشأ في بيئة سليمة فكريًا، نابعة من تراثنا بمختلف التخصصات بخاصة الدينية منها، بل تعتمد بياناته على معطيات شاملة، تعتمد خوارزميات تضم كمًا هائلًا من المعلومات المتنوعة، بعضها دقيق، وبعضها نسبي، وبعضها الآخر لا يُناسب عمر الطفل أو بيئته الثقافية أو الدينية أو النفسية. إن أكبر خطر يهدد الطفل في تعامله مع الذكاء الاصطناعي لا يتمثل في المعلومة ذاتها، بل في غياب (المصفاة المعرفية) لديه، فهو لا يمتلك بعدُ المهارات النقدية، ولا الأدوات التي تجعله يميز بين الصواب والخطأ، وبين ما يصلح له وما لا يصلح، فيُصبح فريسةً سهلةً لبرامج مصممة لتلبية الطلب، لا لتوجيه الضمير أو الأخلاق. ما نعيشه اليوم يتطلب منا بوصفنا آباءً ومربين تحولًا في أدوارنا التقليدية، فلم يعد يكفي أنْ ننصح أطفالنا بالاستخدام المحدود للتقنيات، بل يجب أنْ نكون شركاء معهم في استخدامها، نشاركهم فضولهم، ونتحاور معهم بشأن ما يكتشفونه، بل نزرع في نفوسهم أدوات التفكير النقدي التي تسمح لهم بالتحقق، والمقارنة، والتساؤل، والتحليل، لا مجرد الاستقبال والتطبيق. وينبغي أنْ نطور من أدواتنا أيضًا، فنقرأ، ونبحث، ونتابع كيفية تطور هذه البرامج، وما الآثار التي تتركها في المدى القريب والبعيد، مثلما أننا بحاجة إلى منصات تربوية آمنة، تتوافق مع قِيمنا، وتخاطب وجدان أطفالنا، وتثري خيالهم من دون أنْ تهدد وعيهم. الجيل الجديد لا يبحث عن المعلومة فقط، بل يبحث عن المعنى، والحوار، والانتماء، وإذا لم يجدها في محيطه الأسري، فسيبحث عنها في العالم الرقمي، حتى وإنْ كلفه ذلك ضياع هويته أو تشوه وعيه.