رياض الزهراء العدد 224 هندسة الحياة
تأملات قيادية
في زمن كثرت فيه الشعارات الرنّانة، وتداخلت المفاهيم، وأخذت القيم والمبادئ بالتلاشي وسط ثورة العناوين البرّاقة، نكاد نسمع ونرى في أغلب مواقع التواصل الاجتماعي، أو اللقاءات الاجتماعية كلمة (القيادة)، ومن تتسلّم سدّة القيادة في الحديث فأنّها توحي للمقابل بالثقة التامّة في كلّ حرف تتلفّظ به، سواء لامست الحقيقة أو ابتعدت عنها فراسخ عديدة، فتقوم المخاطبة بتصويرها كأنّها تفيض بالسلطة والهيمنة على المواقف وإبراز العضلات أينما كانت هذه القائدة الحكيمة. وفي خضمّ ضجيج السلطة والسطوة لاحتلال أعلى المناصب الدنيوية، تلامس أرواحنا نفحات إنسانية للإمام عليّ (عليه السلام) حين قال في عهده إلى بعض عمّاله: "واخفض للرعيّة جناحك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحيّة.."(1)، إنّها بضع كلمات لكن تتجلّى فيها كلّ معاني الحبّ والاهتمام بمشاعر الآخرين التي تحرّك أفعالهم، وترسم مستقبل المجتمع. اعتمد الإمام (عليه السلام) حسن التعامل مع الرعيّة، واللين في القول والفعل، فالقيادة ليست بفرض القوّة والسلطة وتخويف الآخرين، بل بالتواضع معهم، وبشاشة الوجه التي تعدّ من مداخل العلاقات الناجحة التي تقدّم في الدورات التدريبية للتواصل الناجح الفعّال. صافحي الآخرين بوجهك المبتسم الذي يمنحهم الأمان لإكمال المشوار معك بكلّ رقّة ولين بعيدا عن الفظاظة والقسوة، فجوهر اللين هو القوة المتّزنة بدون إقصاء أو إهانة، فتجد فيك الأخريات السند لا الخذلان. وتحطّ الرحال عند الجملة التي تأمّلتها كثيرا فرأيتها موسوعة حسن التعامل مع الآخرين، بل يجب أن تصبح شعارا لمن أرادت بناء جسور المحبّة بينها وبين المحيطين، وهنا لا أقصد فقط القائدة في العمل، بلّ في كلّ مناحي الحياة اليومية، إذ قال الإمام عليّ (عليه السلام): "وآس بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحيّة.."(2)، فهي رسالة بليغة جمعت أغلب مهارات التواصل غير اللفظي فيها، فتشير الى أهمّية التواصل البصري وتوزيع النظرات مع الانتباه لنوعية النظرة تلك، سواء كانت نظرة لحظية عابرة سريعة، أم نظرة مقصودة، فيكون الجميع أمامك سواسية في الكرامة والاحترام، إذ إنّ النظرة تحمل في طيّاتها المشاعر قبل أن يبينها السلوك الفعلي، فيمكن أن يهين المرء أحدا ما أو يرفع الآخر بنظرة لا يشعر بها إلّا من وجّهت له تلك الرسائل الفعّالة. وكذلك يلحق بالنظرة أيضا تلك الإشارات أو الإيماءات ذات الحدّين التي إن استخدمت في الخير وبحسن النيّة لوجدنا المفعول الإيجابي لها يسري في كلّ حدب وصوب. تلك التأمّلات القيادية بمنزلة المنارة الإنسانية التي تضيء طريقنا بالرحمة والمحبّة لنشر الإيجابية وحبّ الخير في المجتمع. .................................... (1) نهج البلاغة: ج3، ص76. (2) ميزان الحكمة: ج4، ص 3223.