القرآن الكريم وأزمة الأمن الوجوديّ: قراءة في خوف الإنسان وطمأنينة الإيمان

عبير عبّاس المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 19

من تداعيات العصر الحديث أنّها خلقت شعورا بالخوف والقلق داخل الإنسان، فصار يفتّش عن ظلّ آمن يحتمي به من مخاوفه الداخلية، من خواء المصير، وفوضى الخارج، وأحيانا من نفسه، فالخوف في المفهوم القرآني لا يبطل الإيمان، إنّما يجعله طريقا إليه، وكذلك الطمأنينة ليست ثمرة السلامة، بل برهان الثقة بمن هو فوق الأسباب؛ لأنّ الخوف بشكل عام إحساس وجودي يلازم الإنسان منذ لحظة مجيئه إلى الدنيا بشتى أشكاله: الخوف من الفقد، من الظلم، من الغيب، من الموت، ومن المصير، واللافت للنظر أنّ القرآن الكريم لا ينكر الخوف، بل يعترف به ويعيد تشكيله في ضمن رؤية توحيدية كونية كاشفة، فقد يبدو هذا الشعور في ظاهره مذموما، لكنّه في المفهوم القرآني ليس دائما هكذا، فقد يكون الخوف أحيانا منبّها للتوبة أو دافعا للوعي. أنواع الخوف: (الخوف، الخشية، الوجل، الرهبة، الهيبة)، فالخوف للعاصين، والخشية للعالمين، والوجل للمخبتين، والرهبة للعابدين، والهيبة للعارفين(1)، أمّا الخوف من عاقبة الذنوب واجتنابها فقد ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: )ولمن خاف مقام ربّه جنّتان( (الرحمن:46)، والخشية بسبب التقصير في الأعمال الصالحة وردت في قوله تعالى: )إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء( (فاطر:28)، وأمّا الوجل فقد جاء في الآية: )إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم( (الأنفال:2)، والرهبة من الله تعالى وكون المؤمن في حالة الخوف والرجاء جاءت في قوله تعالى: )ويدعوننا رغبا ورهبا( (الأنبياء:90)، والهيبة تأتي نتيجة شهادة الحقّ عند كشف الأسرار للعارفين، كقوله تعالى: )ويحذّركم اللّه نفسه( (آل عمران:30). إذا القرآن الكريم لا ينفي وجود الخوف لدى الإنسان، بل يراه عنصرا من مكوّنات التجربة الإنسانية، لكنّه يفرّق بين الخوف المذموم الذي يصدر عن الفراغ والهوى، وبين الخوف المحمود النابع من إدراك الهيبة الإلهية؛ لذلك يمكن تقسيم الخوف إلى قسمين: 1ـ الخوف الايجابي: هذا النوع من الخوف ناتج عن المعرفة لا عن الجهل، فقد قال تعالى: )وإيّاي فارهبون( (البقرة:40)، وقوله تعالى: )إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء( (فاطر: 28)، وهو ما يؤكّد عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقوله: "رأس الحكمة مخافة الله عزّ وجلّ"(2). 2ـ الخوف السلبي: نرى ذكره في آيات كثيرة تصف حال الكافرين والمنافقين والذين يعيشون فزعا من كلّ شيء، كقوله تعالى: )يحسبون كلّ صيحة عليهم( (المنافقون:4) وقوله تعالى: )سنلقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب( (آل عمران:151). إنّ الخوف في المفهوم القرآني يقابله الشعور بالسكينة والطمأنينة، والفرق بين السكينة والطمأنينة هو أنّ السكينة تسكن روح المرء بعد الشدائد وتهدّأ قلبه بعد الاضطراب، أمّا الطمأنينة فهي سلام داخلي في كلّ الأوقات؛ لأنّها شعور نابع من الإيمان، فالطمأنينة أشمل وأكمل من السكينة، فهي ليست مجرّد حالة شعورية، بل هي إفاضة من الله تعالى على قلب المؤمن تجعله يطمئنّ على الرغم من الظروف الصعبة والشدائد الخارجية، أمّا الطمأنينة فهي قيمة لا تقابل الخوف فقط، بل تتجاوزه، فهي ليست مجرّد هدوء نفسي، إنّما تمثّل قوة ربّانية في قلب المؤمن، فقد قال تعالى: )الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب( (الرعد:28). إنّ الخوف ليس نقصا في الإيمان، بل هو جزء من التجربة البشرية، والإيمان لا يلغي الخوف بل يروّضه، فلا يمكن للمؤمن أن لا يخاف، لكنّ الإيمان يعلّمه كيف يوجّه خوفه؛ ليكون محرّكا له نحو الله تعالى، لا شللا أمام الصعوبات، والطمأنينة ليست عطيّة روحية فقط، بل هي مستوى من النضج الإيماني يفيض الله تعالى به على من يستحقّه، فالطمأنينة نابعة من تسليم داخلي يعيد ترتيب الكون في وعي المؤمن، وفهم العلاقة بين الخوف والطمأنينة بوصفهما قطبين متكاملين يمنح الإنسان المؤمن وعيا أعمق تجاه ذاته، وتجاه خالقه، وتجاه العالم من حوله، ويحوّل اضطرابه إلى يقين حيّ يتجاوز الوعود النظرية. .................... (1) راجع الخصال للشيخ الصدوق: ص281- 282. (2) موسوعة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام): ج3، ص202.